على الرغم من اهتمام وسائل الإعلام الغربية بتغطية العدوان الوحشي من قبل إسرائيل على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، فإن تزايد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية والقدس الشرقية كان موضع تقارير غربية أكبر.
فقبل اندلاع الحرب في غزة، انصب تركيز جماعات حقوق الإنسان الغربية على الزيادة الملحوظة في عدد القتلى الفلسطينيين على أيدي المستوطنين والجيش الإسرائيلي، وتوسيع المستوطنات غير القانونية بموجب القانون الدولي. ولكن عقب مرور أحد عشر شهرًا على العدوان الإسرائيلي على غزة، نشرت وسائل إعلام مثل مجلة «الإيكونوميست» تقارير عن كيف اكتسب المستوطنون الإسرائيليون الدعم من الدمار الشامل الذي حل بغزة، وكيف باتوا يتمتعون بقوة مدعومة من قبل الساسة والجيش بالبلاد، فصعّدوا من حملاتهم الإرهابية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
ومع ذلك امتنعت الحكومات الغربية والمنظمات المتعددة الجنسيات التي تدعم إسرائيل سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا ــ وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي ــ عن اتخاذ إجراءات عملية ضد الحكومة الإسرائيلية لوقف جرائمها في غزة والانتهاكات في الضفة.
وفي تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» ومقرها بروكسل، بتاريخ سبتمبر 2024 بعنوان «القضاء على عنف المستوطنين الإسرائيليين من جذوره»، أقرت بأن عنف المستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين «لم يخضع لأي رقابة منذ سنوات»، وطالب التقرير الحكومات الغربية بـ«استخدام نفوذها لدى إسرائيل» بشكل أكثر فعالية لكبح جماح هذا الخطر المتزايد على الاستقرار الإقليمي والأمن الإنساني.
كما حثت «المجموعة» على فرض عقوبات أشد وأوسع على المستوطنين المتطرفين مما هي عليه حاليًا، وأن الدول الغربية يجب أن «تحد من مبيعات الأسلحة المستخدمة في انتهاك القانون الدولي».
إن الحرب الإسرائيلية الوحشية المستمرة من أكتوبر 2023 في غزة لم تقتل أكثر من 42 ألف مدني فلسطيني فحسب، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، وألحقت أضرارا مادية تقدر بمليارات الدولارات بالبنية التحتية والإسكان، بل إنها أيضًا، ووفقًا لـ«مجموعة الأزمات الدولية»، حولت انتباه العالم بعيدًا عن «العنف المنهجي والمتزايد من قبل المستوطنين بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة».
ويعيش الآن أكثر من 700 ألف مستوطن إسرائيلي بصفة غير شرعية بالضفة الغربية، و200 ألف آخرين في القدس الشرقية المحتلة. وفي حين أوضحت مجلة «الإيكونوميست» أن التركيبة السكانية لهؤلاء المستوطنين تتألف من «الإسرائيليين العلمانيين أو المتدينين المتطرفين» الذين يستغلون انخفاض أسعار المساكن في مثل هذه المستوطنات، كما أشارت إلى انتماء هؤلاء إلى «مجتمع ديني أيديولوجي يرى في العيش بالضفة الغربية جزءًا من مهمة مقدسة».
وسجلت «هيومن رايتس ووتش» كيف شهد عام 2023/2024 أعلى وتيرة للهجمات العنيفة للمستوطنين ضد الفلسطينيين منذ 2006 وذلك وسط نمط من العنف المتصاعد حتى قبل العدوان على غزة، وأثارت «الإيكونوميست» كيف تشجع هؤلاء المستوطنين بتدمير غزة، وأن ما دفعهم الى ذلك هو «النفوذ الهائل» الذي تتمتع به الأحزاب الداعمة لهم داخل ائتلاف حكومة نتنياهو، وكذلك قرارات الحكومة التي توفر «ستارًا لمزيد من مصادرة الأراضي في الضفة الغربية».
ومنذ أكتوبر 2023، سُجلت أكثر من 1000 حادثة عنف من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين، مع طرد أكثر من 1300 أسرة من منازلها بالقوة والترهيب، وسجلت «هيومن رايتس ووتش» كيف قام المستوطنون الإسرائيليون «بالاعتداء على الفلسطينيين وتعذيبهم وارتكاب العنف الجنسي ضدهم، وسرقة ممتلكاتهم ومواشيهم، وتهديدهم بالقتل إذا لم يغادروا بشكل دائم، وتدمير منازلهم ومدارسهم»؛ ما أدى إلى إجبار «مجتمعات بأكملها» على الفرار من منازلها.
وأدرك الإعلام الغربي الدور الحاسم الذي يلعبه الجيش الإسرائيلي ودعمه لعنف هؤلاء المستوطنين. فسجلت منظمة «هيومن رايتس ووتش» كيف قام الجيش في أعقاب اندلاع الحرب في قطاع غزة «باستدعاء 5.500 مستوطن بما في ذلك بعضًا ممن لديهم سجلات إجرامية جنائية في العنف ضد الفلسطينيين» وتعيينهم فيما يسمى بكتائب «الدفاع الإقليمي» بالضفة الغربية، وتوزيع أكثر من 7000 بندقية عليهم وعلى ما يسمى بـ«فرق الأمن المدنية».
كما تطرقت «مجموعة الأزمات الدولية» إلى تزويد هؤلاء المستوطنين بزي رسمي حتى لا يتمكن ضحاياهم من التمييز بينهم وبين الجنود الإسرائيليين. وعلاوة على ذلك، ذكرت مجلة «الإيكونوميست» كيف مانعت الشرطة الإسرائيلية مرارًا الدعوات إلى «إجراء تحقيقات في عنف المستوطنين» منذ تعيين زعيم حزب «القوة اليهودية» والمقيم غير القانوني في مستوطنة من المستوطنات «إيتمار بن غفير» وزيرًا للأمن القومي الإسرائيلي.
وبالإضافة إلى ذلك، أكد «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» على تواجد الجنود الإسرائيليين أثناء اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية، لكنهم لم يتدخلوا، وأن اعتداءاتهم المتكررة على المدن والبلدات الفلسطينية منذ أوائل العام الحالي قد أسفرت عن استشهاد ما يربو على 600 فلسطيني وعن اعتقال واحتجاز أكثر من تسعة آلاف.
ورغم تأكيد منظمة «هيومن رايتس ووتش» على أن التدمير الشامل والاستيلاء على الممتلكات، والترحيل القسري للفلسطينيين من الضفة الغربية على يد المستوطنين يمثل «جرائم حرب»، وما أضافته مجلة «الإيكونوميست» أن الخبراء القانونيين الدوليين يعتبرون «جميع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية بموجب اتفاقية جنيف الرابعة»، إلا أن الحكومات الغربية قد تقاعست عن اتخاذ إجراءات فعالة لوقف التوسع ومعاقبة المسؤولين الإسرائيليين.
وندد «بيل فان إسفيلد» مدير قسم حقوق الطفل في هيومن رايتس ووتش، بـ«التساهل» و«الإفلات من العقاب» الذي يتسبب في تأجيج الأزمة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، كما أكد أن التدابير العقابية ضد كبار المستوطنين فشلت في إيقاف تسريع عمليات الضم؛ حيث في فبراير 2024، فرضت حكومتا «الولايات المتحدة والمملكة المتحدة» عقوبات اقتصادية وقيود سفر على عدد محدود من قادة المستوطنين الإسرائيليين غير الشرعيين. كما اعترفت إدارة «بايدن» بأن «عنف المستوطنين، والتهجير القسري، وتدمير الممتلكات» قد بلغ «مستويات لا تطاق» وتمثل «تهديدًا خطيرًا للسلام والأمن» في فلسطين والمنطقة بشكل عام. وأقر وزير الخارجية البريطاني آنذاك اللورد «كاميرون» بأن هذه الأعمال «غير قانونية وغير مقبولة».
كما مارست نفس الحكومات ضغوطًا محدودة على «نتنياهو» وائتلافه اليميني المتطرف لوقف توسيع المستوطنات. إلا أنه في يوليو 2024، بينما كان الفلسطينيون يُجبرون بشكل وحشي على مغادرة أراضيهم، سمح نتنياهو ببناء 5300 منزل جديد على نحو 3000 فدان من الأراضي الفلسطينية. وفي ردها، وعدت الحكومة الأمريكية بـ«مواصلة استخدام الأدوات المتاحة» لكشف وتعزيز المساءلة دون فرض عقوبات فعلية على إسرائيل، بينما اكتفى «جوزيف بوريل» مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بإدانة ضم المزيد من الأراضي المحتلة.
وفي ظل هذه المساءلة الفاترة والخجولة، دعت «سارة ياجر» مديرة هيومن رايتس ووتش في واشنطن، إلى فرض عقوبات على السلطات الإسرائيلية المسؤولة عن العنف والضم غير القانوني. وأكدت «منظمات حقوق الإنسان» الدولية ضرورة أن تركز الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا على اتخاذ إجراءات حازمة ضد تصرفات المستوطنين، ودعت إلى تعليق الدعم العسكري لإسرائيل لتجنب التواطؤ في الانتهاكات. كما دعت المنظمة الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة اتفاقياته الثنائية مع إسرائيل، وفرض حظر تجاري على الأصول المالية المرتبطة بالمستوطنات في الضفة الغربية.
وأشارت «مجموعة الأزمات الدولية» في تقريرها إلى أن عقوبات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد قادة المستوطنات هي «خطوة أولى جيدة»، لكنها دعت إلى ضغوط أكبر على إسرائيل بسبب استمرار أعمال العنف والضم. كما حثت على تجاوز نظام العقوبات الحالي لفرض عقوبات على «أعضاء الحكومة المحرضين على العنف والتطرف»، مع التركيز على «بن غفير» ووزير المالية «بتسلئيل سموتريتش» الذين «يدعمون المستوطنين».
ومن جانبها، أكدت «هيومن رايتس ووتش» ضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ودول أخرى إجراءات لضمان المساءلة عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل، بما في ذلك دعم التحقيقات الجنائية الدولية التي تجريها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
على العموم، إن استمرار التزام بايدن تجاه إسرائيل يجعل أي تغيير كبير في السياسة الأمريكية غير محتمل قبل يناير 2025، عندما يدخل البيت الأبيض إدارة جديدة. وفي حال إعادة انتخاب «دونالد ترامب» فإن هذا سيعزز «مشروع الاستيطان الإسرائيلي»، بينما قد توفر «كامالا هاريس»، إذا تم انتخابها، «فرصة لفرض ضغوط على إسرائيل.
وبالنسبة إلى نحو ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية الذين يعيشون تحت احتلال عسكري لا يوفر الحماية لهم من جرائم المستوطنين، فإن تردد الحكومات الغربية في فرض عقوبات فعالة عليهم يزيد من معاناتهم. وقد استنتجت «مجموعة الأزمات الدولية» أن إسرائيل لن تكون «جزءًا من الحل لعنف المستوطنين» حتى تتوقف عن كونها «جزءًا من المشكلة».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك