لقد ظهر مفهوم القيادة الخضراء بداية كمفهوم أكاديمي تحت مسمى «إدارة الموارد البشرية الخضراء أو إدارة حقوق الإنسان» وقد ذكر «ويرماير (1996)» على أنه وضع الأساس لفكرته القائلة بأنه «إذا كانت الشركات أو المؤسسات سوف تنتهج نهجًا واعيًا بالبيئة في أنشطتها، فإن الموظفين هم مفتاح نجاحها أو فشلها». وعلى أساس ذلك فقد تمت الإشارة إلى مفهوم القيادة الخضراء في بداية الأمر كمصطلح إداري قائم على المسؤولية البيئية، مركزًا على دمج مبادئ الاستدامة وحماية البيئة ضمن استراتيجيات وأهداف المؤسسة، وفي عملية قيادة فرق العمل بمختلف أنماطها، حيثُ تهدف هذه القيادة الخضراء إلى تحقيق التوازن بين أبعاد التنمية المستدامة وهي، البيئية والاقتصادية والاجتماعية، واعتماد نهج الاستدامة والمسؤولية، وتشجيع الابتكار والتغيير الإيجابي وتعزيز التعاون بين فئات الموظفين، مما يسهم في تحسين سمعة المؤسسات التي تتبنى القيادة الخضراء في بيئة العمل. كذلك فإن بيئة العمل الصحية تعزز بالتأكيد من إنتاجية الموظفين، وتجذب العملاء لتلك المؤسسات للاستفادة مما تقدمة من منتجات وخدمات مستدامة.
لذا فإن القيادة الخضراء ليست مجرد اتجاه يركز على التوجهات البيئية في بيئة العمل، إنما تطور هذا المفهوم ليشمل آليات الإدارة والتفكير الإيجابي الأخضر نحو قيادة فرق العمل، التي تعدُ استراتيجية شاملة تعزز من جودة بيئة العمل وتسهم في تحقيق الأهداف البيئية والاجتماعية والاقتصادية لمؤسسات العمل. ومن خلال تبني هذه المبادئ، يمكن للمؤسسات أن تخلق بيئة عمل أكثر استدامة وإنتاجية. ومما سبق يمكن تحديد مفهوم القيادة الخضراء بأنها: «مجموعة من قيم العمل ذات النمط المتعمق في الأحاسيس الملامسة للإنسان والقادرة على التعبير عنه بصدق، والقادرة على إضاءة مختلف الأفكار الخلاقّة والابداعية التي بإمكانها العمل على تحريك الطاقات البشرية الكامنة، التي يظهر دورها في ممارسة السلوكيات البيئية الأخلاقية السليمة وفهمه لأصولها.
وتعد القيادة الخضراء وسيلة لتحقيق هدف وليس غاية في ذاتها، لأنها تمثل إحدى القضايا المهمة ألا وهي الاستدامة، التي تَعني «التفكير في المستقبل والمحافظة عليه للأجيال القادمة» وتهدف إلى تحديد الأهداف الجماعية والقدرة على توجيه المجتمع للوصول إلى هذه الأهداف بالاشتراك مع الأفراد والمنظمات المختلفة، كما يركز هذا النوع من القيادة على إدارة العلاقات وتعزيز سلوكيات قيادية أفضل من القيادة التقليدية، حيث تقوم على الاستثمار في رأس المال للعقل البشري؛ إذ تعتَبِر العاملين كنزًا يجب رعايته والحفاظ عليه بواسطة تنمية مهارات الأفراد ذوي الفكر الإبداعي والابتكاري وتمكينهم من المشاركة الفعالة في تجويد بيئة العمل، وبما أن نوع القيادة هو الذي يتحكم في بيئة العمل ويتضح أثره على المجتمع، وأن محاكاة القائد وسيلة أساسية لنهضة الأوطان وتقدمها، لذا بات من الضروري الاستمرار في تمكين قادة بيئة العمل بشكل دوري ومستدام من مهارات القيادة الخضراء لتوسيع طاقات الموظفين وتبادل خبراتهم للوصول إلى وحدة الفكر بين أفراد المؤسسات بحيث يكون أداء الفرد منهم مؤشرا ودليلًا على أداء المؤسسة كليًّا.
ويمكننا تحديد مهارات القائد الأخضر بأنه: يسعى دائمًا إلى تحقيق الأمن الوظيفي بالاستفادة من تطوير الأداء ورفع الروح المعنوية بين أعضاء مجتمع العمل، وذلك انطلاقًا من التأمل في أداء موظفيه وتنمية ذكائهم النفسي لتحقيق الرفاهية الوظيفية وجودتها، والعمل من أجل خلق كوادر جديده قادرة على القيادة المستدامة، والالتزام بالمسؤولية المجتمعية، وهو إلى ذلك يمتلك مهارة الاستماع وإدارة الحوار البناء الذي يعزز العمل الجماعي، وهو دائم البحث عن الابتكار والأبداع خاصة في بيئات العمل المتغيرة الظروف، والسعي لتحقيق الرؤية المشتركة، وضرورة التأكد من اكتساب الموظفين المهارات والآليات السليمة التي تسهم في إصلاح بيئة العمل واستدامة الموارد والنتائج الملموسة.
ويتبادر دائمًا إلى ذهننا أسئلة عدة حول دور القيادة الخضراء في تعزيز الريادة في مؤسسات العمل وجودتها؛ لذا نرى أن تطبيق القيادة الخضراء في الفرق يتطلب اعتماد نهج شامل للعديد من النقاط. أولها أن يكون القائد يؤمن برؤية هذا النهج، وملمًا بالمفاهيم المستدامة، ويكون قادرًا على توجيه الفريق نحو تحقيق الأهداف المستدامة، ويعمل كنموذج يحتذى به لبقية الفريق بواسطة التزامه بالأنظمة والقوانين ومتابعة تنفيذها من قبل الموظفين. ويمتلك القدرة على تعزيز جانب الولاء الوظيفي بعقد اللقاءات والاجتماعات الدورية، وتوظيف المناسبات لتوجيه الموظفين الى ضرورة العمل بجد وتفان وأداء الواجب بالصورة المطلوبة. ويحث موظفيه على أداء العمل بكل إخلاص ابتغاءً لمرضاة الله، وواجبهم تجاه الوطن الذي يفرض عليهم بناءَه انطلاقًا من العمل بأدوات العطاء والانتماء والولاء. ونشير إلى أن القائد قادر على تعزيز هذا الجانب نتيجة لـِمتابعة تقارير الأداء الوظيفي لموظفيه والسعي لتحفيز أولئك الذين يحققون مستوى عاليًا من الجودة في الأداء؛ وبالتأكيد فإن ذلك يُشجِّع على الانتماء والولاء لبيئة العمل وإنجاز المهام الموكلة إليهم بجودة عالية.
وهناك طرق لقياس تأثير القيادة الخضراء على إنتاجية الموظفين، ويمكن أن يتم من خلال مجموعة من الأساليب أبرزها: استطلاعات الرأي الدورية لقياس رضا الموظفين عن بيئة العمل والممارسات المستدامة. وعقد المقابلات التي تتضمن أسئلة محددة حول مدى تأثير القيادة الخضراء على الرضا الوظيفي، والدافعية نحو العمل، والإرهاق الوظيفي، ويتضح كذلك من خلال انخفاض معدلات الغياب، وتراجع طلب الانتقال إلى بيئات عمل أخرى للكفاءات الوطنية، كذلك فإن لمستويات الضغوط النفسية والراحة النفسية بين الموظفين أثرًا واضحًا في تدنى إنتاجية ومعدل الإنجاز في أي بيئة عمل تفتقر الى مراقبة الصحة النفسية والجسدية لموظفيها. ويمكن دمج هذه الطرق لخلق صورة شاملة عن تأثير القيادة الخضراء على إنتاجية الموظفين، ويمكن للمؤسسات أن تتعرف على الفوائد الحقيقية لتبني ممارسات القيادة الخضراء وتحسين البيئة العامة للعمل. ودليل على ذلك أن هناك دراسات تشير الى بيئة العمل غير الصحية، والظروف المؤثرة بشكل مباشر على الصحة العقلية للموظفين. ولأهمية الموضوع أظهرت النتائج الأخيرة من استطلاع العمل في أمريكا لعام 2023 الذي أجرته جمعية علم النفس الأمريكية مدى انتشار بيئة العمل السامة وعواقبها. حيث يعاني أكثر من 1 من كل 5 (22%) من العمال من انعكاسات سلبية على صحتهم العقلية خلال العمل.
وكما يشير الهدف (8) «الذي يتعلق بالعمل اللائق ونمو الاقتصاد وهو أحد اهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي وضعتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2015. الصياغة الرسمية للهدف 8 هي: «تعزيز النمو الاقتصادي المطّرد والشامل للجميع والمستدام، والعمالة الكاملة والمنتجة، وتوفير العمل اللائق للجميع». يُقاس التقدم نحو الأهداف ويُرصد ويُقيّم من خلال 17 مؤشرًا» ويتضمن الهدف 8 من أهداف التنمية المستدامة 12 غايةً يجب تحقيقها بحلول عام 2030. بعض هذه الغايات لعام 2030، وبعضها لعام 2020. تشمل الغايات العشر الأولى «غايات النتائج»: النمو الاقتصادي المستدام، والتنويع والابتكار والتطوير من أجل الإنتاجية الاقتصادية، وتعزيز السياسات لدعم خلق فرص العمل وتنمية المشروعات، وتحسين كفاءة الموارد في الاستهلاك والإنتاج، والعمالة الكاملة وتوفير العمل اللائق بتوزيع متساوٍ للأجور، وتعزيز تشغيل الشباب وتعليمهم وتدريبهم، وإنهاء العبودية الحديثة والاتجار وعمالة الأطفال، وحماية حقوق العمال وتعزيز بيئات العمل الآمنة، وتعزيز السياحة المفيدة والمستدامة، والوصول الشامل إلى الخدمات المصرفية والتأمين والخدمات المالية. هناك بالإضافة الى ما سبق، غايتان تتعلقان «بوسائل الإنجاز»: زيادة المعونة لدعم التجارة، وتطوير استراتيجية عالمية لتوظيف الشباب».
وختام القول بأن تطوير القيادة الخضراء والاستدامة في بيئات العمل يعتبر أمرًا حيويا في عصرنا الحاضر؛ لذا فإننا نرى العديد من مؤسسات مملكتنا الحبيبية تسعى جاهدة لتحقيق تقدم حقيقي في مجال استدامة بيئة العمل وجودتها، حيثً إن العديد من القيادات الوطنية تعمل جاهدة على إيجاد حلول مستدامة للمشكلات وتقييمها وتقويمها من أجل اقتلاعها من جذورها وعدم الاكتفاء بمعالجة الأغراض الناتجة عن هذه المشكلة، ولديها إيمان وطني بمبدأ العدالة المهنية، والتغيير في المؤسسة كضرورة لتجديد الحياة الوظيفية والوصول الى مستويات أفضل تحقق تطلعات موظفيه، ونلاحظ أن العديد من القادة يمتلكون فكرًا تنظيميا وحرصًا على تمكين جميع موظفيهم من القدرات المهنية اللازمة لتحقيق أهدافهم. وكما هو متبع في المؤسسات الحكومية بشكل كبير، وهو العمل على تزويد جميع الموظفين بحسب الاحتياجات المهنية لوظائفهم بالتدريب والتعليم حول ممارسات الاستدامة المعرفية والتطبيقية اللازمة، وعلى سبيل المثال يمكن أن يشمل ذلك ورش العمل والندوات والموارد عبر الإنترنت التي تركز على أحدث المستجدات لوضع موظفيها على درجات الاستحقاق الوظيفي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك