لكل بداية نهاية مهما طال الزمن أو قصر، ولكل واقعة تنزل على البشر سواء كانت طبيعية أو من صنع أيدينا فإنها ستنتهي في نهاية المطاف، ولذلك فإن حرب غزة لا بد أن تنتهي حسب مفهوم معظم الناس، وهو إلقاء الجنود السلاح والرجوع إلى ثكناتهم، وعودة الدبابات والطائرات إلى قواعدها.
ولكن هناك جانباً آخر للحروب عامة وحرب غزة خاصة، فهناك البعد العقيم الذي عادة ما يتم تجاهله ونسيانه ويبدأ بعد توقف الحرب فوراً وبعد رجوع الناس إلى مساكنهم، أو ما تبقى منها، وعند الشروع في أعمال إزالة الركام، والأنقاض، والمخلفات الصلبة. وهذا النوع من الحروب في الكثير من الحالات لا يتوقف ولا ينتهي سريعاً، ويبقى خالداً مخلداً في أعماق المدن، ويستمر متجذراً في مكونات البيئات التي خاضت الحرب وعانت من ويلاتها وقسوتها، سواء كانت التربة والأراضي السهلة المسطحة، أو البيئات المائية من بحار وبحيرات. فتداعيات هذه الحرب الصامتة الجديدة بعد سكوت وصمت أفواه المدافع والطائرات لا تقل خطورة على الإنسان وبيئته، وتستمر في تهديداتها في قتل وجرح المئات من الناس لعشرات السنين واصابتهم بالإعاقات الجسدية المزمنة.
فأثناء شدة اندلاع الحرب واتساع رقعتها الجغرافية، يتم القاء عشرات الآلاف من القذائف والقنابل المختلفة في قوتها وشدتها، ويتم دك المباني والناس بآلاف الصواريخ المحملة بالمتفجرات السامة والقاتلة، ولكن كل هذه القنابل والذخائر لا تنفجر بعد سقوطها والتماسها باليابسة، فيبقى نحو 9 إلى 14% منها عبارة عن مخلفات خطرة، أو قنابل موقوتة جاثمة على الأرض، أو في المكان الذي سقطت عليه، أو في باطن المسطحات المائية بدون أن تشتعل أو تنفجر، ولذلك تستمر في نشاطها وفاعليتها التدميرية الداخلية، وتحتاج فقط إلى من يحركها، أو يهزها، أو يدوس عليها دون أن يعلم، فتنفجر في وجهه وتقتله وكل من حوله من بشر، وشجر، وحجر. كما أن هذه الحرب الجديدة مكلفة جداً، وتستغرق وقتاً طويلاً للانتصار فيها بسبب طبيعة العملية، كذلك هي تحتاج إلى رعاية أممية دولية متخصصة وإلى فنيين أكفاء في إزالة الألغام وتعطيل القنبلة قبل أن تنفجر، إضافة إلى أجهزة ومعدات متطورة وحديثة للتخلص من كل نوع من هذه الذخائر النشطة والقنابل الموقوتة والألغام التي لم تنفجر.
وهذه ليست فرضية قد تحدث أو لا تحدث، وإنما هي حقيقة واقعة تُسندها الشواهد والأدلة والحوادث المأساوية التي وقعت في كل مواقع الحروب، ومازالت حتى يومنا هذا تنزل على الكثير من دول العالم التي تجرعت من كوارث الحروب وتداعياتها العقيمة، كالحرب العالمية الأولى والثانية، أو الحروب العدوانية على غزة اليوم وفي السنوات الماضية.
فبالرغم من انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية منذ عقود طويلة، وبالرغم من نسيان الأجيال المتلاحقة لانعكاسات هذه الحروب المدمرة والشرسة، إلا أن هناك تداعيات المخلفات العسكرية النشطة من قنابل وذخائر وصواريخ الموجودة في المدن التي أُلقيت عليها، فهي تحيي في ذاكرة كل إنسان، حتى من الملايين الذي لم يشهدوا الحرب كلياً بآلام الحرب ومعاناتها الجسيمة الواسعة النطاق، بأن هذا الجانب من الحرب لن ينتهي ويمكث حياً ينبض بالحياة والروح بين الحين والآخر في قلوب الناس ونفوسهم. كذلك الحال بالنسبة لحرب أمريكا الظالمة على الشعب الفيتنامي والأفغاني، ثم حرب لبنان وسوريا وغيرها، ففي كل هذه الحالات نجد بأن قضية الحرب الجديدة المتمثلة في وجود المخلفات الحربية من ذخائر، وألغام، وصواريخ في هذه الدول حتى يومنا هذا ماثلة أمامنا، وتُشكل تحديات وتهديدات للتخلص منها والقضاء كلياً عليها.
وسأضرب لكم آخر الأمثلة على اكتشاف مثل هذه المخلفات المتفجرة في مدن أوروبا على الأرض وفي البحر بعد أكثر من 90 عاماً على انتهاء الحرب. ففي 27 أغسطس 2024 نشرت وسائل الإعلام خبراً حول اكتشاف قرابة 40 ألف طن من الذخائر والقنابل الكيميائية والتقليدية الجاثمة في أعماق بحر البلطيق في بولندا من مخلفات الحرب العالمية الثانية، منها قنابل كيميائية، ومنها قنابل يدوية، ومنها ألغام بحرية، والبعض من هذه القنابل النشطة ظهر على سواحل البحر والشواطئ العامة، وبعضها اصطادها الصيادون في شباكهم بدلاً من صيد الأسماك. وفي مقاطعة «داون» في ألمانيا تم اكتشاف قنبلة ضخمة تزن 500 كيلوجرام في موقع للبناء في 20 أغسطس 2024، حيث أفاد الخبراء بأن هذه القنبلة أُلقيت في مايو 1941، أي قبل 83 عاماً. كذلك في 14 مارس 2024 وفي مركز مدينة ساوث هاملتون البريطانية الساحلية المكتظة بالسكان، تم اكتشاف قنبلة من زمن الحرب العالمية، حيث تم اخلاء المباني والطرقات والمتنزهات، وأُعلنت حالة الطوارئ من أجل ابطال مفعولها والتخلص منها قبل أن تنفجر فتقتل الناس.
وفي غزة فالمشكلة مزمنة ومستمرة، قديمة ومتجددة، فغزة الصامدة مازالت تعاني من مخلفات الحروب السابقة الناجمة عن عدوان الكيان الصهيوني على قطاع غزة الضيق والمحاصر منذ 17 عاماً والكثيف بالسكان، حيث قصف الصهاينة القطاع في الأعوام 2008، 2014، 2018، 2021، ومخلفات تلك الحروب مازالت موجودة في أرض غزة ولم يتم التخلص منها بعد.
أما الإبادة الشاملة اليوم في القطاع فتُضيف إلى الأزمة السابقة المتجددة، وتمثلت في ضرب أكثر من 45 ألف هدف، وإلقاء ما لا يقل عن 50 ألف طن من المتفجرات بمختلف أحجامها وشدتها وأنواعها، مما خلَّف حتى اليوم أحجاماً غير مسبوقة في تاريخ البشرية من المخلفات الصلبة، حسب تقرير دائرة «خدمات الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام» (United Nations Mine Action Service) في 26 أبريل 2024. فقد أفاد بيان هذه الدائرة بأن حجم المخلفات الخطرة وغير الخطرة، إضافة إلى القنابل الموقوتة التي لم تنفجر بأكثر من 42 مليون طن، وهذا الحجم في ارتفاع مستمر كل ساعة.
ولذلك حتى لو انتهت حرب غزة، ولا بد أن تنتهي يوماً ما، فسيدخل القطاع في حرب أخرى لا تقل تهديداً لسلامة البشر والحجر والشجر من الحرب التقليدية الحالية، ولا يستطيع أحد أن يقدر نهايتها وخاتمتها، فقد تطول مئات السنين دون النجاح في التخلص منها كلياً، وستبقى تهدد كل طفل، وكل شاب، وكل شيخ، وكل امرأة، فلا يعلم أحد أين ستضرب هذه القنبلة، ومتى سيكون موعد انفجارها، فلن يكون أي غزاوي في مأمن عنها.
فمخلفات الحرب المتفجرة مجهولة من جميع المناحي، فلا يعرف أحد أماكنها بالتحديد، ولا يعرف أحد أعدادها، ولا يعرف أحد نوعيتها، فكل المواقع التي قُصفت قد تكون في الوقت نفسه مواقع وجود هذه القنابل الموقوتة المتفجرة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك