كانت -ولا تزال- منطقة الخليج العربي محط أنظار القوى الكبرى والمنظمات مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، والأسباب التقليدية التي أسهب الباحثون المهتمون بتلك المنطقة هي النفط والموقع الاستراتيجي لدول الخليج من حيث الممرات الاستراتيجية وكذلك كنقطة ارتكاز للقوى الدولية المتنافسة سواء في تلك المنطقة أو محيطها الجيواستراتيجي، ومع أهمية ذلك فقد أثبتت دول الخليج أنها أيضاً شريك استراتيجي للدول الكبرى وأن بإمكانها تقديم الدعم أيضاً خلال أزمات تلك الدول أو أزمات الأمن الإقليمي ذاتها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر خلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021 لعبت بعض دول الخليج دوراً مهماً في إجلاء الرعايا الأجانب وتأمين عودتهم بأمان الى أوطانهم، وفي أعقاب اندلاع الحرب في السودان في إبريل 2023 كان للقوات البحرية السعودية دور بارز في إجلاء مواطنين ورعايا دول أجنبية على الفور، وخلال الأزمة المالية العالمية عامي 2009 و2010 كان ثلث التمويل للدول الأوروبية من البنوك الخليجية، ما أسهم في التخفيف من حدة تلك الأزمة، بالإضافة الى جهود الوساطة التي تقوم بها دول الخليج العربي في بعض النزاعات الإقليمية والعالمية.
ويعني ما سبق أن دول الخليج العربي تعطي أولوية للأمن في الوقت ذاته بما يجعلها شريكاً إقليمياً موثوقا به، إلا أنه إذا كانت المجالات الأمنية والعسكرية هي المحدد الرئيسي للعلاقات الخليجية -الغربية، نجد في الوقت ذاته وجود اهتمام متنامٍ من جانب القوى الكبرى بتلك المنطقة، وهو أمر ليس بالجديد ولكن يلاحظ أمران الأول: تبلور ذلك الاهتمام في مبادرات أو شراكات محددة لوضع تصور لأمن تلك المنطقة أو الشراكة معها، والثاني: تعدد وتقارب تلك المبادرات. ومع أن خيار الشراكات والتحالفات الدولية هو خيار استراتيجي لدول الخليج العربي كدول صغرى ومتوسطة، فإن لدول الخليج هدفين من تلك الشراكات، الأول: قدرة الدول الكبرى على الحفاظ على توازن القوى الإقليمي في الخليج، والثاني: تلبية الاحتياجات الأمنية لدول الخليج، ولا شك أن الولايات المتحدة وشركاءها من الدول الغربية قد أسهمت في تحقيق الهدف الأول، إلا أن تغير مفهوم الأمن وبالتالي طبيعة المعادلة التي كانت تحكم تلك العلاقات وهي النفط مقابل السلاح قد أفسح المجال للتنافس الدولي مجدداً في منطقة الخليج العربي من خلال عدة مبادرات منها المبادرة الروسية للأمن الجماعي في الخليج عام 2019، والمبادرة الصينية لأمن الشرق الأوسط عموماً عام 2021 وأخيراً مبادرة الشراكة الاستراتيجية الأوروبية- الخليجية عام 2022 ، فضلاً عن المفهوم الاستراتيجي للناتو لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط عام 2024 بما يتضمنه من منطقة الخليج العربي.
ومع أهمية تلك المبادرات ومن أجل تقييمها يجب تحديد توقيت إطلاقها ومضامينها، وجميعها ارتبط إما بالمصالح الاقتصادية لمقدميها أو ضمن صراع القوى الكبرى ذاتها سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي، وهذا الأمر ليس بمستجد على منطقة الخليج العربي حيث انعكست أجواء الحرب الباردة التي انتهت عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفيتي على منطقة الخليج ومن بينها الغزو السوفيتي لأفغانستان وما استتبعه من اجتذاب مقاتلين بغرض «الجهاد»، وجاءت مبادرة حلف الناتو تجاه دول الخليج عام 2004 ضمن مفاهيم الشرق الأوسط الكبير وغيرها من المبادرات الأخرى التي لم تخل من مصالح للدول الكبرى.
ومع التسليم بأهمية تلك المبادرات، حيث يلاحظ أن منطقة الخليج العربي هي الأكثر استقبالاً للمبادرات الدولية، فإن ثمة تساؤلا مهما يثار: هل تتلاءم مضامين تلك المبادرات والاحتياجات الأمنية لدول الخليج العربي في ضوء التطورات الإقليمية الراهنة؟ لقد أثبتت التطورات أن دول الخليج لاتزال في حاجة إلى شركاء أمنيين على المستوى العالمي لممارسة مفهوم الردع من اجل الحفاظ على المصالح الحيوية لدول الخليج العربي ومن بينها تهديدات الأمن البحري التي تتطلب تأسيس تحالفات بالنظر الى تعدد التهديدات ومحدودية قدرات دول الخليج البحرية على مواجهتها بمفردها ومن ذلك تهديدات الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر، إلا أنه برأيي توجد خمسة متطلبات لنجاح أي شراكة دولية مع دول الخليج العربي أولها: تلبية الاحتياجات الأمنية لدول الخليج والتي تتجاوز مفهوم مشتريات الأسلحة التقليدية لتصل إلى التكنولوجيا العسكرية وزيادة جهوزية الجيوش للتعامل مع الكوارث والأزمات ومنها احتمالات هجوم سيبراني على المنشآت سواء المدنية أو العسكرية، وثانيها: تقديم ما يطلق عليه «القيمة المضافة للأمن» ، فعلى سبيل المثال عندما أطلق حلف الناتو مبادرة اسطنبول عام 2004 للشراكة مع دول الخليج تردد كثيراً مفهوم القيمة المضافة للأمن وكان التساؤل: إذا كانت دول الحلف الرئيسية ترتبط باتفاقيات أمنية مع دول الخليج العربي فماذا يمكنها أن تقدم من خلال حلف الناتو؟ وكان الحلف واضحاً في ذلك الأمر من خلال تحديد مجالات اختيارية للتعاون الأمني مع دول الخليج وأيضاً مفهوم الأمن الناعم من خلال التدريب والاستشارات، وثالثها: الآليات التنفيذية لتلك الشراكات ومنها على سبيل المثال ضرورة وجود حوار استراتيجي بين دول الخليج وشركائها الدوليين سواء من خلال قمم أو اجتماعات وزارية لمتابعة تنفيذ تلك الشراكات، وخاصة أنها تعمل في بيئة سريعة التغير تتيح فرصاً وتفرض قيوداً، ورابعها: الأخذ بالاعتبار طبيعة التأثير والتأثر بين دول الخليج والإطار الإقليمي، فلا يمكن الحديث عن أمن الخليج العربي بمفهومه الشامل بعيداً عن تحقيق الاستقرار في دول الجوار ومن ثم لا بد وأن تشمل تلك الشراكات رؤية لتحقيق الأمن الإقليمي، وخامسها: في ظل تجربة مجلس التعاون كتنظيم إقليمي استطاع الحفاظ على توازن القوى خلال الأزمات الإقليمية والمسار التكاملي للمجلس، فإن المبادرات الدولية التي تتعامل مع المجلس ككتلة واحدة لها تأثير مهم على الأمن الجماعي لدول الخليج العربي والأمن الإقليمي.
إن دول الخليج العربي لا يزال لديها حرص على تأسيس الشراكات الدولية بل تطويرها ليس فقط مع الدول الكبرى وإنما مع التنظيمات في الوقت ذاته من خلال استراتيجية عابرة للحدود مع منظمات مثل الآسيان والبريكس ومنظمة شنغهاي، وإن اختلف حجم العضوية الخليجية في تلك التجمعات ورؤية كل دولة خليجية بشأنها فإنها مؤشرات مهمة على أهمية تلك الشراكات لدول الخليج وحرص تلك التكتلات على ضم بعض دول الخليج العربي الى عضويتها بما يحقق الفائدة المشتركة للجانبين من ناحية ثانية وخاصة في ضوء تغير مفاهيم الأمن ليشمل الأمن الغذائي والأمن البيئي والصحي.
سوف تستمر دول الخليج العربي في تأسيس وتطوير شراكات دولية، ولكن أكثر تلك الشراكات نجاحاً تلك التي تلبي احتياجات الخليج الأمنية وتعتمد على مبدأ توازن العلاقات بين الجانبين.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك