لا نعرف متى اهتمت رضي الله عنها بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا نعرف من أين سمعت به، وماذا سمعت، ولكن كل الذي نعرفه أنها سمعت عن أخلاقه العالية التي كان يعيشها في معاملاته مع الناس وفي إدارة أعماله وأعمال عمه أبي طالب التجارية، وربما أوضحت سبب اختيارها له صلى الله عليه وسلم ليقوم بالخروج في تجارتها –كما تشير بعض المراجع– إنها قالت له: «إنه مما دعاني إلى البعث إليك دون أهل مكة ما بلغني من صدق حديثك وعظيم أمانتك وكرم أخلاقك»، وتذكر الروايات أن أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها أعطته صلى الله عليه وسلم أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، وأرسلت معه غلامها ميسرة، ومن هنا تبدأ الحكاية، ويبدأ بروز إنسانة قائدة استطاعت برباط جأشها وقوة شخصيتها أن تسهم في بروز فجر جديد ليس على مكة فحسب وإنما على الإنسانية جمعاء.
القدرة على دراسة معادن الناس واتخاذ القرار؛ عندما قررت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مالها من أجل الاتجار بها، يمكننا أن نخمن أنها رضي الله عنها كانت لا تريد أن تكتفي بما سمعت من الناس حول أخلاقياته صلى الله عليه وسلم وإنما كانت تريد أن تتأكد من كل ذلك ومن مصدر موثوق، وهو خادمها ميسرة، حتى تتمكن من التحليل والتفكير والتمحيص، إذ إنه من المعلوم أن معادن البشر وشخصياتهم الحقيقية تظهر أثناء السفر، وخاصة في زمن لم تكن هناك وسائل ترفيه أو وسائل نقل سريعة، وفنادق وما إلى ذلك، وإنما كانت المساحة الزمنية التي يقطعونها بين مكة والشام وبالعكس، والمكوث هناك والقيام بعمليات التجارة تستغرق عدة أشهر، وكانت منازلهم في الترحال هي الخيام، ووسائل نقلهم الإبل والقافلة، وكانت وجباتهم التمر والحليب والقليل من الشعير وما إلى ذلك، فكانت تلك البيئة هي البيئة المناسبة لدراسة الشخصيات البشرية، فرافق ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره إلى الشام، كانت مهمته أن يقوم على خدمته صلى الله عليه وسلم وأن يراقب تصرفاته ومعاملاته، وشخصيته، فكيف ينام وماذا يفعل حين استيقاظه، وكيف يقوم بعملية البيع والشراء، وكيف يتعامل مع الناس والتجار والبشر، وكيف يتعامل حتى مع الأرض التي يمشي عليها ومع الحيوانات والنبات، وكل حركاته وسكناته، وكل سجاياه صلى الله عليه وسلم، وكان ميسرة أمينًا فنقل كل تلك المعلومات بحرفية وجدارة.
لذلك قامت أم المؤمنين باجتياز المرحلة الأولى وهو قرار العمل بأموالها، إلى المرحلة الثانية وهي موضوع الارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من اتخذ القرار، وهي من قامت بتوصيل الفكرة إلى عقل وقلب رسول الله فتمت عملية الزواج والارتباط.
القدرة على ضبط النفس والتحكم بالذات؛ حينما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشرية بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتًا، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدًا. ويشير طهماز في كتابه (السيدة خديجة أم المؤمنين) إلى مثل هذه الحوادث بقوله: «ولا بد أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك للسيدة خديجة رضي الله عنها، فمثل هذه الحوادث أمور عجيبة خارقة للعادة، تثير في نفس من تعرض له شيئًا من القلق والخوف، ويصبح محتاجًا إلى شخص يثق به، يبثه ما يجده، ويحدثه بما يساوره من خوف وقلق، والسيدة خديجة رضي الله عنها أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم روحًا وجسدًا، فهي أهله وسكنه وأنس روحه ونفسه رضي الله عنها. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا، وأنا أخشى أن يكون بي جنن»، قالت: لم يكن الله ليفعل ذلك بك يا ابن عبد الله، ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يكن صادقًا فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى عليه السلام، وإن بعث وأنا حي فسأعزره وأنصره وأومن به». رواه أحمد متصلاً ومرسلاً، والطبراني بنحوه وزاد: وأعينه. ورجال أحمد رجال الصحيح.
استمر الوضع على هذا المنوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ويرى الأمور الغريبة والخارقة للعادة والتي لم يسمع عنها أحد من قبل، وهي رضي الله عنها كانت عونًا وعضدًا ومثبتًا له، حتى نزل أمين الملائكة جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد نبي هذه الأمة والبشرية جمعاء صلى الله عليه وسلم.
نزل صلى الله عليه وسلم – كما تروي كتب السيرة النبوية – من الغار وهو يرتجف فزعًا فدخل على خديجة رضي الله عنها وهو يقول «زملوني.. زملوني» أي دثروني وغطوني، فزمّلته وغطته، حتى ذهب عنه الروع، بعد ذلك طلبت منه خديجة رضي الله عنها أن يقص عليها ما الذي حدث، فأخبرها الخبر، وقال صلى الله عليه وسلم: لقد خشيت على نفسي، قالت خديجة رضي الله عنها: «كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضعيف، وتعين على نوائب الدهر».
ولم تكتف خديجة رضي الله عنها بمثل هذه الكلمات التي تبث في النفس الطمأنينة، ولكنها انطلقت رضي الله عنها به صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل مرة أخرى، فقالت له: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الأمور التي جرت، عندئذ أضيئت البشرية بنور الإسلام والخروج من عبادة الأوثان أيًا كان نوعها إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده، فدخلت البشرية العهد العقلاني الجديد، عهد توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به، في تلك اللحظة آمنت خديجة رضي الله عنها، فكانت هي أول الخلق – من غير منازع – يؤمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله وبصدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
ويجب الملاحظة والتركيز هنا على دور أم المؤمنين رضي الله عنها منذ الإرهاصات الأولى لنزول الوحي، فقد كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها موجودة في كل اللحظات التي كان يحتاج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تشكّ فيه وفيما يقول ولو للحظة واحدة، بل كانت تثبته وتصدقه وتناصره وتخفف عنه كلما عاد إليها فزعًا مرعوبًا، وكانت حريصة كل الحرص ألا يسمع ما يكره مهما كانت تلك الكلمات صغيرة أو قد يظنها الإنسان لا تساوي ما قيل.
هكذا وبكل اقتدار، تمكنت هذه الزوجة الوفية المحبة وهذه المرأة القائدة في ذلك المجتمع الجاهلي أن تتدخل في مسيرة أكبر الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ.
قدرتها على إدارة بيت الزوجية؛ نكاد نجزم أن بيت أم المؤمنين رضي الله عنها لم يكن يخلو من الصخب واللعب والصراخ وشقاوة الأطفال ومرحهم وضحكاتهم، ونكاد نجزم كذلك أن هذا البيت لم يكن يخلو من بعض المشاكل وبعض المنغصات أيضًا، ولكن مع هذا الزوج والأب صلى الله عليه وسلم الحنون العظيم وتلك الزوجة والأم الطاهرة سيدة نساء قريش رضي الله عنها استطاعا أن يتجاوزا كل تلك المنغصات مهما كانت، لذلك لم تتمكن كتب التاريخ والسير أن تذكر أي نوع من المشاكل التي يمكن أن تكدر عش الزوجية مهما كانت كبيرة أو صغيرة، على الرغم من أن الفترة الزمنية التي عاشاها معًا بلغت حوالي خمس وعشرين سنة بحلوها ومرها، فهل نعتقد أنه لم توجد لحظة من المشاكل أو المنغصات؟
ولله در خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، قد انصرفت تمامًا لإدارة بيتها والقيام بأعباء المنزل على كثرتها وإرهاقها، وهي جدّ سعيدة بذلك، وقد كانت تقوم بذلك بكل حب وإخلاص وتفان، وربما لم تكن تكنس وتغسل ولكنها كانت تقوم بأعظم من ذلك، فهي تربي العيال وتدير المنزل بكل ما فيه ومن فيه، وتقوم برعايتهم وتلبي احتياجاتهم، وبالإضافة إلى كل ذلك فقد كانت رضي الله عنها تتولى بنفسها خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكلف أحدًا بذلك. يقول ابن حجر: كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها. ويروي في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنّي، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب». والشاهد في الحديث هو أنها رضي الله عنها كانت هي بنفسها تحضر له الطعام وتأتي به إليه وتقدمه له صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنها كانت حريصة كل الحرص على ذلك، فقد كان بالإمكان أن ترسل أحد خدمها للقيام بذلك، ولكنها الزوجة المخلصة.
تلك كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، تلك هي المرأة في الإسلام، زوجة وقائدة ومفكرة وعظيمة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك