كثيرًا ما نظر الفكر الاستراتيجي إلى البحر الأحمر على اعتبار أنه بحر عربي؛ لامتلاك الدول العربية المشاطئة له نحو 90% من سواحله، وعلى رأس هذه الدول تأتي السعودية بساحل يبلغ طوله 1830 كم بنسبة 33.9% من إجمالي طول الساحل، فيما تأتي مصر بعدها بساحل يبلغ طوله 1425 كم وبنسبة 25.5%، بعد ذلك تأتي السودان تليها اليمن ثم جيبوتي ثم الأردن. فيما يخص جزر البحر الأحمر فيتبع السعودية 1150 جزيرة، تضعها كما تضع الساحل في إطار استراتيجيتها لتنويع مصادر الدخل وتطوير قطاع السياحة ليكون من أهم ركائز الاقتصاد السعودي، وتشمل رؤية 2030 تطوير 200 كم على طول ساحل البحر الأحمر وتنمية 50 جزيرة، كما توجد موانئ سعودية مهمة على البحر الأحمر: كجدة وينبع.
وعبر البحر تمر تجارة دول الخليج مع أوروبا وشمال وغرب إفريقيا والأمريكيتين استيرادًا وتصديرًا، كما أن عبره تأتي الكثير من مهددات الأمن القومي الخليجي، سواء القرصنة التي تطال أمن السفن العابرة من وإلى دول الخليج، أو الإرهاب من قبل تنظيمات كالقاعدة، أو تهريب المخدرات والأسلحة والبشر، أو تهديدات جماعة الحوثي في اليمن، والتي طالت أهدافًا ومواقع في السعودية والإمارات، وأصبحت مؤخرًا أهم مهدد للملاحة فيه.
وبعد تصاعد العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وتوجه جماعة الحوثي لاستهداف السفن بحجة أنها تركز فقط على السفن المملوكة لإسرائيل أو المتجهة إليها، فقد رأينا كيف طالت هذه الهجمات ناقلات النفط، مما هدد السلامة البيئية للبحر، ومن ثم المشروعات التنموية في منطقته سواء كانت للسعودية أو لمصر، كما أن هذا التهديد دفع شركات الشحن إلى التحول إلى طريق الرجاء الصالح، ما زاد من تكلفة الشحن والتأمين وطول مدة الرحلة، وما يمثله ذلك من تبعات تضخمية يعاني منها المستهلك، كما أدى ذلك إلى تراجع إيرادات قناة السويس بنحو 50%، فيما تعد هذه الإيرادات من أهم ركائز الاقتصاد المصري.
والارتباط بين أمن البحر الأحمر والأمن الخليجي، جعل السعودية تبادر أكثر من مرة إلى صياغة معادلة أمنية تقوم بالأساس على الدول العربية والإفريقية المشاطئة له، وكان أحدث هذه المبادرات، مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك «سلمان بن عبد العزيز» في 2018، بإنشاء كيان جامع للدول المطلة على حوض البحر الأحمر؛ لتحقيق مصالحهم الأمنية والسياسية والاستثمارية، وتأمين حركة الملاحة العالمية، ويضم الكيان (السعودية ومصر واليمن والسودان وجيبوتي والصومال والأردن)، ويكون له القدرة على التعامل مع الجوانب الأمنية، فضلاً عن الجوانب الاقتصادية والتنموية والاستثمارية والبيئية، فيما أعلن وزير الخارجية السعودي حينئذ «عادل الجبير» أن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق دول المنطقة، لتفادي تدخلات أي دول خارج المنطقة في شؤون هذه المنطقة الحساسة بالذات فيما يتعلق بالأمن والاستقرار، كما عدت السعودية البحر جسرًا للتواصل بين الحضارات والثقافات، وقد جاء إعلان المبادرة السعودية في الاجتماع الذي دعت إليها المملكة في الرياض لوزراء خارجية الدول المذكورة.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تبادر فيها المملكة لإنشاء تكتل إقليمي يحقق التكامل بين الدول العربية المطلة عليه، فقبلها كان ميثاق جدة 1956 لإقامة نظام أمني مشترك ضم (السعودية ومصر واليمن)، وفي 1972 كان مؤتمر جدة للدول المحافظة على أمن البحر الأحمر بمشاركة (السعودية واليمن ومصر والسودان وأثيوبيا)، ثم مؤتمر جدة 1976 الذي تم فيه إبرام الاتفاقية الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن وتم اختيار جدة مقرًا لهذه المنطقة الإقليمية، فضلاً عن اتفاقية جدة 1982 بين (السعودية والسودان والصومال والأردن واليمن)، وفيما يمثل البحر الأحمر عمقًا استراتيجيًا للسعودية، فهو كذلك عمق استراتيجي لمصر، وهو نظام فرعي من إقليم الشرق الأوسط، وامتداد أمني لإقليم الخليج العربي، وقريب من حوض النيل والقرن الإفريقي والمحيط الهندي، ولهذا فإنه يمثل أولوية استراتيجية لدول الخليج ومصر.
وقد تبلورت مبادرة خادم الحرمين الشريفين المذكورة إلى إنشاء مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر في 2020، في ظل التهديدات الإيرانية المتزايدة للملاحة البحرية، خاصة في مياه البحر الأحمر وخليج عدن، وتزايد التهديدات التي قامت بها جماعة الحوثي المدعومة من إيران للمجرى الملاحي والمملكة العربية السعودية، وقد ضم المجلس (السعودية ومصر والأردن والسودان واليمن وإريتريا والصومال وجيبوتي)، وركز على الحفاظ على الأمن في المجرى الملاحي، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين دول المجلس؛ لتحقيق التكامل والربط بين خطوط النقل والموانئ البحرية، وزيادة حجم التبادل التجاري؛ بحيث تشكل المنطقة تكتلاً متماسكًا وقادرًا على تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر، واتخذ المجلس من الرياض مقرًا له.
وتزامنًا مع المبادرة السعودية، كان التوجه السعودي لإقامة قاعدة عسكرية سعودية في المدخل عند باب المندب في وقت تزايدت فيه القطع البحرية والقواعد العسكرية الأجنبية في هذه المنطقة؛ حتى غدت أكثر مناطق العالم اكتظاظًا بهذه القطع والقواعد، والتي تنتمي إلى قوى إقليمية ودولية، لأهمية هذه المنطقة القصوى من الناحيتين الجيواستراتيجية والاقتصادية، وتعدد التهديدات التي تطال مصالح هذه الدول. ففي عام 2016 اتجهت السعودية إلى إقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي، التي رحبت بهذا التوجه السعودي لإقامة قاعدة عسكرية في القرن الأفريقي، الذي بات مصدرًا لتهريب البشر والهجرة غير الشرعية تجاه دول الخليج، فيما توجد في جيبوتي قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية وصينية ويابانية وإسبانية وإيطالية وألمانية، وضمن الاستعدادات لإقامة القاعدة السعودية، وقعت السعودية مع جيبوتي اتفاقًا للتعاون الأمني، وآخر للتعاون القضائي، وارتباطًا بين التكامل الأمني والاقتصادي، كما وقعت كذلك في يونيو 2024 عقد المدينة اللوجستية السعودية بالمنطقة الحرة في ميناء جيبوتي على مساحة 120 ألف متر مربع في مرحلتها الأولى، ويمتد العقد مدة 92 عاما، ويشمل مقرا دائما ومنصة للصناعات السعودية ومنطقة تبادل تجاري.
وتأتي الإمارات العربية المتحدة في ذات السياق؛ حيث تسعى إلى تأمين مصالحها بتحقيق وجود فعال في المنطقة والسواحل الإفريقية الشرقية، عن طريق نشر شبكة من القواعد العسكرية، لردع التهديدات التي تطال منطقة الخليج وتهدد الملاحة في البحر، ويرجع نشاط الإمارات في هذا الشأن إلى 2010؛ حيث نشطت في اليمن وإريتريا والصومال وأرض الصومال، ولدى الإمارات قاعدة عسكرية في الصومال في مدينة بوساسو، وأخرى في أرض الصومال في بربرة، وفي إريتريا في مدينة عصب، وفي جزيرة سقطري اليمنية قبالة سواحل القرن الأفريقي.
وبالإضافة إلى هذه المبادرات تشارك دول الخليج في الجهد الدولي لتحقيق أمن الملاحة، وأكبر مجموعة للأمن البحري موجودة حاليًا هي القوات البحرية المشتركة التي تأسست في 2001 وتقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وتشارك فيها 41 دولة بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي ودول عربية أخرى، وتضم أسفل منها خمس قوات واجب تشكلت لمكافحة الأنشطة غير المشروعة في الخليج العربي والبحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي، بالإضافة إلى عملية «حارس الازدهار» التي تم تشكيلها في ديسمبر الماضي، ردًا على هجمات الحوثيين على السفن، وتشارك فيها البحرين، كما تقوم دول الخليج بالتنسيق المباشر مع الشركاء الاستراتيجيين في مجال الأمن البحري، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، سواء من خلال المجلس جماعيًا أو ثنائيًا مع كل دولة بمفردها.
وفي شأن هذا التنسيق يقتضي الحال الإشارة إلى أن قدرة الحوثيين على تهديد الملاحة في البحر الأحمر سببها الإخفاق في تطبيق قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن فرض حظر توريد السلاح للحوثيين في 2015، وإخفاق آليات الأمم المتحدة «آلية التفتيش والتحقق» في الحيلولة دون وصول هذه الأسلحة، وكذلك آلية مراقبة ميناء الحديدة وفق اتفاق استكهولم 2018، كما أنه يجب الالتفات إلى خطر الألغام البحرية التي زرعها الحوثيون في المياه الإقليمية اليمنية، وهي تتحرك مع التيارات البحرية نحو ممرات التجارة العالمية، ما نتج عنه إصابة العديد من السفن، ويحتاج الأمر إلى تعاون دولي ومواثيق، وإذا كان نشاط الحوثيين المهدد للملاحة في البحر الأحمر مرتبط بالعدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، فمن الأهمية بمكان نزع الذرائع لضرورة إنهاء هذا العدوان، والنظر إلى الارتباط الدائم بين أحداث الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وقضايا الشرق الأوسط جميعها.
والخلاصة، إن أمن البحر الأحمر هو قضية أمن قومي عربي، وخليجي بامتياز، عملت عليه منذ وقت مبكر مبادرات السعودية التي تمتلك أكبر سواحله، ووضعت تنميته في رؤيتها المستقبلية، ونظرت إليه كمجال تكامل وتعاون وليس مجال صراع، وكان إنشاء مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر تعبيرًا عن هذه الرؤية، ولكن التنافس الدولي والإقليمي على هذه المنطقة لأهميتها الجيوسياسية والاقتصادية، جعلها تزدحم بعدد القطع البحرية والقواعد العسكرية التي تخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية، وكان الوجود العربي وسط هذا التنافس: السعودية والإمارات ومصر، كما كان التنسيق الخليجي مع الجهد الدولي لتحقيق أمن البحر، ولكن ينبغي وضع المهددات الأخيرة في سياقها، خاصة الارتباط بينها وبين العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، ومن ثم فإن أولى خطوات احتواء هذه التهديدات، هي وقف العدوان الإسرائيلي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك