اتسمت العناوين الرئيسية الآتية من فلسطين وإسرائيل بكثير من التشاؤم والمأسوية إلا أنها عناوين متوقعة. وبطبيعة الحال تتمثل المشكلة في أن الحكومة الإسرائيلية تبدو عازمة على أن تجعل الوضع، الذي هو سيئ للغاية بطبيعة، أكثر سوءًا. أما إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فهي تتصرف كما لو أن ما كانت تفعله على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية هو أمر آخر غير صب البنزين على النار المشتعلة أصلا.
في هذه الأثناء، تواصل الحكومة الإسرائيلية التصرف كما لو أنه لا توجد عواقب لأعمالها وسياساتها واعتداءاتها الوحشية. فهي تأبى أن توقف عدوانها على قطاع غزة وسكانه، ذلك أنها تأمر مرة تلو الأخرى بعمليات إجلاء جماعية تجبر عائلات بأكملها على النزوح من بقعة إلى أخرى.
وقد أدت عمليات القصف التي طالت مختلف مناطق قطاع غزة إلى حدوث نقص حاد في الغذاء والدواء والمياه، وقد أفادت عدة تقارير عن أطفال يموتون بسبب سوء التغذية، فيما تفاقمت حالات شلل الأطفال.
وما لا تستطيع القيادة الإسرائيلية أن تفهمه هو أن تنامي الغضب ومشاعر الألم السائدة على نطاق واسع بين الشعب الفلسطيني لن يؤديا إلا إلى المزيد من المقاومة وتمكين حركة حماس من استقطاب المزيد من العناصر.
وقد واجه الجيش الإسرائيلي على مدى الأشهر القليلة الماضية، مقاتلي حركة حماس وبقية التنظيمات في مناطق شمال ووسط غزة التي ادعت إسرائيل أنه «تم تطهيرها».
ولكن كما تعلمت الولايات المتحدة الأمريكية الدرس البليغ خلال الحروب المتعاقبة التي خاضتها في فيتنام وأفغانستان والعراق، فطالما بقي الغازي الأجنبي فلن يتم «تطهير» أي منطقة على الإطلاق.
وفي الوقت نفسه، تبدو الضفة الغربية على حافة الانفجار. فمنذ عدة سنوات، يقوم الجيش الإسرائيلي وشرطة الحدود بشن هجمات قاتلة تستهدف التجمعات الفلسطينية، ومنذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، تسارعت عمليات الاجتياح والاقتحامات والاعتداءات كما أصبحت أكثر فتكا لأنها مصحوبة بقصف جوي.
هذا ليس كل شيء.
لقد عانى الفلسطينيون منذ فترة طويلة من عنف المستوطنين المتطرفين – الحرق والنهب وحتى استخدام القوة المميتة. وقد تسامحت القوات العسكرية الإسرائيلية مع هذه الاعتداءات السافرة، بل شجعتها في كثير من الأحيان، كما تزايدت هذه الاعتداءات من حيث تكرارها وما تتسم به من عنف قاتل.
ومما زاد الطين بلة أن أعضاء الائتلاف الحاكم الذي يقوده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انخرطوا في استفزازات، بالقول والفعل، الأمر الذي أدى إلى تحريض المستوطنين المتطرفين وتأجيج المزيد من مشاعر الغضب أو الخوف بين الشعب أبناء الفلسطيني الأسير.
لقد تم إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية غير القانونية، وتوفير الحماية العسكرية والخدمات الحكومية والأسلحة، وتم ضمها إلى إسرائيل في كل المقاصد والأغراض. وقد قاد أحد الوزراء المتطرفين غزو الحرم الشريف، معلنا نيته بناء كنيس على أرض المسجد الأقصى.
في تلك الأثناء، قال عضو آخر في الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو إن هدف الحكومة يجب أن يكون إخراج الجزء الأكبر من الفلسطينيين من الضفة الغربية، لجعلها أكثر قابلية للحكم.
ويبدو أن كل هذه الأمور مجتمعة كانت بمثابة خير دافع لعمليات التجنيد التي تقوم بها حركة حماس، حيث أفادت التقارير أن الحركة قد نجحت في استقطاب أعضاء جدد ليس فقط في الأراضي المحتلة، بل أيضاً بين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وبينما تستمر رقصة الموت هذه، تتصرف إدارة الرئيس جو بايدن بلا أدنى علم، وهي تبحث يائسة عن فتح باب التفاوض من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار، وهو ما يجب أن تعرفه الآن أن حكومة نتنياهو ليس لديها مصلحة في القبول بوقف إطلاق النار.
وبغض النظر عن الكيفية التي تلاعبت بها الولايات المتحدة الأمريكية بالشروط التي تجعل هذا العرض مقبولا لدى الجانب الإسرائيلي (مما يجعلها غير مقبولة ليس فقط بالنسبة لحماس، بل لمصر أيضا)، فإن نتنياهو، الخائف من خسارة حكومته، يواصل إما قول «لا» أو إثارة بعض الغضب كتكتيك لتأخير التوصل إلى صفقة.
في الأثناء لا تزال حكومة بنيامين نتنياهو تتجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية وتنتهك القانون الأمريكي، لكن رد إدارة الرئيس جو بايدن هو إرسال الأسلحة وتهديد أولئك الذين يطالبون بالمحاسبة في المجتمع الدولي.
ومن شأن هذا الأمر أن يزيد في تعزيز شعور إسرائيل بالحصانة والإفلات من العقاب، وتأجيج الغضب الفلسطيني، وتقوية مكانة حركة حماس بين السكان الذين يشعرون بالمرارة وخيبة الأمل، فيما يزداد الضرر الذي يلحق بصورة الولايات المتحدة الأمريكية في أعين العالم باعتبار أنها تغض الطرف عن الأعمال الهمجية الإسرائيلية.
إن ما كان من المفترض أن يقتصر على رد انتقامي على هجمات 7 أكتوبر 2023، تحول الآن إلى عدوان شامل وواسع النطاق وهو ما سيزيد في إذكاء روح المقاومة من دون أن تلوح أي نهاية في الأفق.
ولا ينبغي لأحد من أي جانب أن يفترض أنه يمكن تحقيق أي نوع من النصر. لقد أصبح المجتمعان الإسرائيلي والفلسطيني أكثر استقطابا، كما أن بئر المرارة الذي تم حفره سوف يستغرق أكثر من جيل حتى يمتلئ.
صحيح أن حركة حماس هي التي شنت هجومها يوم 7 أكتوبر 2023، وأن إسرائيل هي التي ردت الفعل وشنت عدوانها العسكري المدمر على قطاع غزة، ولكن الخطأ يقع أيضاً بشكل مباشر على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد ظلت سلطات واشنطن، في ظل مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولفترة طويلة جدًا، توفر الحماية لإسرائيل وتغطي على أعمالها غير القانونية وانتهاكاتها السافرة. ونتيجة لذلك، فقد شجعت الولايات المتحدة الأمريكية بهذه السياسة المتطرفين الإسرائيليين وقضت على قوى السلام الإسرائيلية.
كما تسببت هذه السياسات التي ظلت تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية في إضعاف وتهميش المعتدلين الفلسطينيين وتقوية الأطراف الراديكالية الفلسطينية وتعزيز مكانتهم في الشارع الفلسطيني.
كذلك، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية طوال هذا الوقت تكافئ الإسرائيليين، بينما تعاقب الفلسطينيين. فالفلسطينيون هم الذين تطالبهم سلطات واشنطن باتخاذ الاختيارات الصعبة، في حين لا يُطلَب إلا أقل من القليل من الإسرائيليين – وعندما ترفض إسرائيل فهي لا تتحمل أي عواقب، على عكس الفلسطينيين.
ولتغيير هذه الديناميكية، يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعيد النظر في هذه السياسات التي ظلت تنتهجها – وأن تفعل ذلك بشكل كبير. إن اتخاذ قرار بقطع شحنات الأسلحة الأمريكية عن إسرائيل، والذي طال انتظاره، والاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، من شأنه أن يحدث الصدمة اللازمة للنظام الإسرائيلي، كما أن من شأن اتخاذ هذا القرار أن يفرض نقاشا داخليا في إسرائيل، مما يدعم أولئك الذين يريدون السلام. وقد يكون من المفيد أيضًا إرسال رسالة إلى الشعب الفلسطيني مفادها أن محنته وحقوقه تلقى كل التفهم.
صحيح أن اتخاذ مثل هذه الإجراءات لن تنهي الصراع غدا أو في مستقبل قريب، لكنها بالتأكيد ستضع المنطقة على طريق السلام، وتدخل المنطقة في مسار أفضل من المسار الحالي.
سيقول البعض إنه من غير المرجح أن يتمكن الرئيس جو بايدن من اتخاذ مثل هذه الخطوة، ولكن إذا تمكن من حشد نفس العزم الذي اتخذه للتنحي جانبا من أجل ترشح نائبة الرئيس كامالا هاريس للانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم، فإنه يمكنه أيضا أن يجد الشجاعة الكافية للقيام بذلك.
صحيح أن اتخاذ مثل هذه الخطوات المطلوبة من الإدارة الأمريكية لن تؤدي إلى إزالة الضرر الذي حدث، لكنها ستمهد الطريق لخليفة الرئيس بايدن للتحرك بسهولة أكبر نحو تحقيق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك