منذ وقت ليس بقليل، والحديث يدور عن الأزمة الخطيرة التي تعانيها اللغة العربية، سواء لتراجع مستواها وعدم تقدير أهلها لها وانصرافهم عنها، أو بسبب عدم وجود إرادة سياسية تدرك أهمية وقيمة التعاطي الإيجابي مع المشكلات التي تواجهها اللغة وكيفية حلها.
ورغم خطورة أزمة اللغة وما أدت إليه من انعكاسات سلبية على الفرد والمجتمع «ثقافيًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا»، فلا تزال تلك الأزمة تتفاقم وتتفاقم لتبتعد اللغة العربية –رويدًا رويدًا– عن عقول وقلوب الناس وتفارق مكانتها اللائقة بها والمستحقة لها لتحل محلها وسيلة تعبير، لا هي لغة ولا هي غير لغة، لا هي عربية ولا هي أجنبية، وإنما هي هجين من رموز ومفردات وعبارات مكتسبة، تُكتَب فيها الكلمات باللاتينية والإنجليزية وبالأرقام أيضًا، وتحاكى ألفاظًا مولدة من الشارع وسلوكياته وعاداته، وهى في الغالب معبرة عن فئة معينة من الشباب، بينما تفصلها في الوقت نفسه عن بقية المجتمع، الذى اختار لنفسه مستوى آخر من اللغة، قد يكون أشد التزامًا بتقاليدها، لكنه أبعد إحساسًا بها وبأهميتها وقيمتها.
في ظل هذه الآليات المتناقضة من وسائل التعبير اللغوي المهجنة، يغرق المجتمع العربي في متاهة العجز عن استكشاف نفسه والتعبير عن هويته، ويعتقل نفسه طواعية إما في لغة أجنبية يتعلمها، رغبة في التميز العلمي والعملي، أو في لغة عربية مهترئة وممتلئة بأصوات وألفاظ غريبة وغربية، تمزق المجتمع العربي وتشرذم علاقاته لتجعلها قائمة على أساس طبقي، الأعلى فيه لمَن يمتلك حظًّا وافرًا لأى من اللغات الأجنبية، وللأسف كلما كنت عارفًا بها ففرص العمل أمامك بلا حساب، وأبواب المجتمع مفتوحة لاحتضانك والفخر بإنجازاتك، وهنا مكمن الخطر لأن لكل لغة وطنًا، ومَن لا يحترم لغته لا يعتز بوطنه الذى ينتمى إليه ولا يعنى بشؤونه.
ولا يختلف اثنان في أن انهيار الإحساس بالانتماء كان بمثابة أول خطوة في طريق السقوط اللغوي، خاصة بعد أن تراجعت المنطقة العربية برمتها «اقتصاديًّا واجتماعيًّا» وباتت متأثرة بصراعات إقليمية ودولية.
وعندما تهون الأوطان سوف تهون اللغة، وعندما تغيب الثقافة فمَن الذى سيفكر في اللغة، ومن أين ستأتي الغيرة عليها؟
إن الجهود المبذولة لحماية اللغة العربية طيلة السنوات الفائتة لم تؤتِ ثمارها ولن تؤتيَ لأنه رغم مصداقية بعض مَن يبذلون تلك الجهود عندما وضع أبو الأسود الدؤلي «علم النحو» كان ذلك بتوجيه أعلى رأس في الدولة العربية الإسلامية، وهو الخليفة «على بن أبى طالب» كرم الله وجهه ورضي الله عنه ،لما استشعر المخاطر التي تهدد اللغة العربية وهويتها، بينما نجد الآن الكثيرين ينصبون الفاعل ويرفعون المفعول ويجرون الساكن ويسكنون المجرور ولا يقدرون على صياغة جملة باللغة العربية السليمة، الأمر الذى يؤكد أن اللغة – رغم كونها أهم ركائز المجتمع العربي وسر وحدته المفترضة وهمزة الوصل بين أقطاره – لا تزال تفتقد للداعم الأكبر حسبما اعتادت مجتمعاتنا هنا فقط ستجد اللغة حراسًا لها يحمونها من الوافد والدخيل، ويحفظونها كلغة مقدسة نزل بها القرآن الكريم، وعندما يدرك الشباب أن الوطن بالنسبة إليهم هو الأولى والأهم ستكون اللغة في مقدمة اهتماماتهم، فترى هل سيأتي مثل هذا الزمن؟!
النجاح في قتل أي أمة لن يتأتى إلا بتدمير ونسف لغتها، وتلك حقيقة وعاها الاستعمار جيدًا، لذلك استبدل باحتلاله الأرض احتلال العقول والضمائر، واستعاض عن استعمال القوة المسلحة الغاشمة في مواجهة الغيورين على الأوطان بمحاربته تراثهم وتاريخهم وهويتهم وإصراره على تغييب وعيهم ومسخ أفكارهم وتحقيره أشرف ما يملكون في حياتهم «اللغة»، وعاء الذكريات والخبرات والتجارب وهمزة الوصل لتعلم الدروس من الماضي والوعى بالحاضر وفهم المستقبل، فباللغة يتكلم أبناء المجتمع الواحد، ويعبرون عن أحلامهم وطموحاتهم، وبها يمكن مقاومة العولمة الزاحفة بكل طغيانها نحو تدمير المعتقدات والثوابت ودفن الثقافات المحلية تحت قطار الثقافات الوافدة.
نتيجة لذلك، سقط الضعفاء في الفخ، ومنهم كان العرب الذين وقفوا متفرجين على لغتهم وهي تُحارَب وتُشَوَّه وتُزيَّف وتُمتهَن وتُحَوَّل إلى لغة أجنبية في عيون المتحدثين بها، ويبدو أن هؤلاء لم يدركوا أن إتقان اللغات الأخرى مرهون بإتقان اللغة الأم، وأن الإبداع باللغات الأخرى لا بد أن يكون نتيجة الارتباط الوثيق باللغة الأم.
فمثلًا الشاعر جبران خليل جبران عندما يكتب بالإنجليزية يأخذنا لروعة وجمال جبال لبنان، وتوفيق الحكيم عندما يترجم مسرحية من الفرنسية إلى العربية، يضيف إليها من روحه، ويجعلنا نشعر وكأنها بخطوط وألوان مصرية عربية، أما حالة التغريب التي تعيش فيها اللغة العربية الآن – كما سبق أن أشرت – فهي بفعل فاعلين، مستعمرين وعملاء مستعمرين، هدفهم الأول والأخير تحقير هذه اللغة وتهوينها في عيون أبنائها، بل إثبات قصورها وعجزها عن مواكبة تطورات العصر ومتطلبات العلم والبحث العلمي والتكنولوجي، ونتيجة تكثيف الحرب على اللغة واستمرارها فترات طويلة، تصور الحمقى أن اللغة العربية باتت المرادف المشروع للتراجع العلمي.
إن اللغة العربية كنز لا مثيل له بحكم غزارة مفردات تلك اللغة وقدرتها على التعبير، وما تحويه من مدركات صوتية وصرفية ونحوية وجذور لغوية اشتُق منها أكثر من 12 مليون مفردة، ولعظمة اللغة العربية وقيمتها اختارها الله لغة لقرآنه العظيم، إن الفرق بين اللغة العربية وغيرها من اللغات أنها – أي اللغة العربية – ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، فلا يُعرَف لها مولد، ولا يُتوقع لها شيخوخة، يُقال إنها لغة أهل الجنة، ويُقال إنها لغة آدم، عليه السلام.
في الوقت الذي تجذب فيه اللغة العربية إليها المتعلمين لها من كل صوب وحدب، ينفر منها أهلها، ويحطون من شأنها، وبهذا نجح الاستعمار في فرض مخططه والتسويق لرؤيته، وابتلع العرب الطُّعم، وهاموا في غربة، اختاروها بإرادتهم، واسْتَلَذُّوا العيش في كنفها، وبهذا لا هم حَمُوا لغتهم، ولا هم أجادوا لغات الآخرين، ولا هم قاوموا مَن غرّبهم، ولا هم عاشوا مُعزَّزين مُكرَّمين، إنها مأساة أمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك