تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي ودول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) بعدد من أوجه التشابه الاقتصادية والجيوسياسية. فكلتا المنظمتين، رغم اختلاف أعضائهما في الحجم والمصالح، تسعيان إلى تعزيز التعاون الاقتصادي، من خلال اتفاقيات تجارية، وتحقيق توازن بين القوى العظمى لضمان مصالحهما طويلة الأمد.
ففي العقدين الماضيين، شهدت دول التعاون الخليجي نموًا كبيرًا في اقتصاداتها، ما جعل بعض دول التعاون كـ (السعودية والإمارات وقطر) تُعتبر «قوى متوسطة» يمكنها التصرف باستقلالية عن القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة. وبالمثل، شهدت اقتصادات جنوب شرق آسيا تقدمًا ملحوظًا؛ فذكرت «الإيكونوميست» كيف أصبحت سنغافورة نموذجًا للرخاء؛ حيث تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، كما أُطلق على إندونيسيا لقب «قوة اقتصادية صاعدة» بفضل استقرارها السياسي، ووفرة مواردها الطبيعية، بينما تحولت ماليزيا من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي وخدمي، مما رفعها من وضع الدخل المنخفض إلى المتوسط الأعلى خلال جيل واحد.
ومنذ إنشاء رابطة آسيان في عام 1967، والتي تضم 10 دول بإجمالي سكان يتجاوز 660 مليون نسمة وناتج محلي إجمالي يصل إلى 3.2 تريليونات دولار، وتدشين منطقة التجارة الحرة لها في عام 1992، عملت الرابطة على تعزيز السوق المشتركة بين أعضائها، وإبرام اتفاقيات تجارية حرة مع دول كـ(الصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا)، بينما يسعى العديد من الأعضاء لتقليل الاعتماد على الصين من خلال تعزيز التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة، فإن نهجهم يشبه إلى حد كبير نهج مجلس التعاون الخليجي في تعزيز المصالح الاقتصادية وتجنب التوترات الجيوسياسية.
وكتب «جون كالابريس» أستاذ السياسة الخارجية الأمريكية في الجامعة الأمريكية في مقاله بمعهد دول الخليج العربية بواشنطن، إن السعي المشترك للتنوع الاقتصادي والابتكار، بالإضافة إلى التخفيف من حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين، يعزز التعاون بين دول الخليج وجنوب شرق آسيا؛ حيث توسعت العلاقات الاقتصادية بين المنطقتين لتشمل مجالات مثل: الطاقة المتجددة، والبناء، والتمويل، والسياحة، والتكنولوجيا الرقمية. وسجلت التجارة بين الخليج وآسيان نموًا بنسبة 44% بين 2021 و2022، لتصل إلى 138 مليار دولار.
وكانت الإمارات هي الدولة الأكثر نشاطًا في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول آسيان؛ حيث أبرمت اتفاقيات شراكة اقتصادية مع إندونيسيا وكمبوديا، وتفاوضت مع ماليزيا، التي تجاوزت تجارتها غير النفطية السنوية مع الإمارات 4.7 مليارات دولار في 2023، بينما بلغت الاستثمارات الإماراتية 220 مليون دولار. وارتفعت التجارة الثنائية بين أبوظبي وجاكرتا بنسبة تزيد على 50% بين 2015 و2023، إلى 3.28 مليارات دولار. ومن المتوقع أن تشهد العلاقات الاقتصادية مزيدًا من النمو.
وفي عام 2022، بلغت التجارة بين الإمارات وإندونيسيا 7 مليارات دولار مع تصدير الإمارات لسلع بقيمة 1.38 مليار دولار، واستيراد سلع بقيمة 2.41 مليار دولار. وفي الأشهر الثمانية الأولى من عام 2023، وصل إجمالي التجارة 3.80 مليارات دولار. وبالنسبة إلى سنغافورة ووفقًا لـمرصد «التعقيد الاقتصادي (OEC) «، بلغت الصادرات الإماراتية 14.4 مليار دولار في 2022، حيث تمثل الصادرات النفطية منها أكثر من 8 مليارات دولار.
بينما كانت الروابط الدينية والثقافية بين السعودية وماليزيا وجاكرتا هي السائدة حتى وقت قريب، لكن القيادة الجديدة في الرياض تحت إشراف ولي العهد الأمير «محمد بن سلمان» أعطت الأولوية للشؤون الاقتصادية. وفي 2023، بلغ حجم التجارة الثنائية بين المملكة وماليزيا أكثر من 11 مليار دولار، مع ميل التجارة لصالح السعودية، التي تهيمن عليها صادرات النفط الخام، كما تجاوزت تجارة سنغافورة مع السعودية 8 مليارات دولار في عام 2022، مع تصدير أكثر من 3.5 مليارات دولار من الهيدروكربونات.
وفيما يخص الاستثمارات، أوضح «كالابريس» أن السعودية استثمرت حوالي 67 مليون دولار في ماليزيا في 2023، مع اهتمام مشترك في مشاريع الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الرقمية. وتعد ماليزيا مركزًا محتملًا لتطوير موارد النفط والغاز لشركة أرامكو السعودية، كما أبدت شركة «أكوا باور» الماليزية اهتمامًا بالاستثمار في الطاقة المتجددة.
وشهدت السنوات الأخيرة زيادة في الاتفاقيات بين دول الخليج ودول آسيان، مع توقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين السعودية وآسيان في يوليو 2023، وإقامة قمة خليجية – آسيانية في الرياض في نوفمبر 2023. وعليه، وصف معهد «آسيا هاوس» هذه الأحداث بأنها أظهرت عزمًا مشتركًا على تعزيز العلاقات، وقد تُفضي إلى اتفاقيات تجارة حرة مستقبلًا.
وعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية القوية، إلا أنه لا يزال هناك تركيز على تعزيز التعاون في مجالات جديدة، ولعل المجالات الواعدة لتوسيع التعاون تشمل النقل، والخدمات اللوجستية، والزراعة، والتجارة الإلكترونية، والخدمات المالية، مع اهتمام خاص بالاقتصاد الرقمي والطاقة النظيفة للفترة بين 2024-2028؛ حيث تشكل جنوب شرق آسيا نحو 7% من واردات الخليج العربي من الأغذية والمشروبات، وتعد المنطقة مشهورة بإنتاج الأرز، وفول الصويا، والفواكه الاستوائية. وهناك احتمال لاستكشاف دول الخليج لمجموعة أوسع من المنتجات الزراعية لاستيرادها. كما تركز الجهود الحالية على تعزيز العلاقات الجيوسياسية؛ حيث إن توسيع التعاون الاقتصادي بين دول الخليج وآسيان من غير المرجح أن يؤدي إلى تغييرات جيوسياسية كبيرة.
إن نتائج القمة الأولى لمجلس التعاون الخليجي ورابطة دول جنوب شرق آسيا في نوفمبر 2023 كانت «تفتقر إلى التفاصيل» أو «الاتفاقيات الملزمة»، إلا أن هناك بالفعل «مشاركة واسعة من الدول الأعضاء»، فضلًا عن «استعداد واضح لإبرام المزيد من الصفقات»، بما في ذلك اتفاقية التجارة الحرة المستقبلية المحتملة.
وأشار «كالابريس» إلى أن زعماء جنوب شرق آسيا، مثل «أنور إبراهيم» يعطون أولوية للتواصل مع دول الخليج بسبب نمو اقتصاداتها، وأنه يوجد أساس قوي واهتمام مشترك بتعميق التعاون ببين دول مجلس التعاون وآسيان، إلا أن التقدم في العلاقات الاقتصادية بينهم لا يزال دون المستوى المطلوب، وأنها لا تزال قليلة مقارنة بحجم التجارة مع الصين، وأسواق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ حيث تعتبر الصين الشريك التجاري الرئيسي لدول الخليج، و أكبر مشتر للنفط من أعضاء المجلس، بينما تُعتبر العلاقات مع دول آسيوية أخرى مثل سنغافورة وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند وفيتنام أقل تطورًا.
وبينما يركز الاهتمام الحالي في بناء العلاقات على السعودية والإمارات، أكد «كالابريس» أهمية عقد قمة نصف سنوية لتعزيز مشاركة (عمان، والبحرين، والكويت) في التوسع الاقتصادي والتجاري مع دول منطقة جنوب شرق آسيا.
على العموم، تظهر العلاقة الاقتصادية بين دول الخليج وجنوب شرق آسيا نموًا ملحوظًا مع اهتمام متزايد بتوسيع مجالات التعاون مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الرقمية. رغم أن الجهود الحالية تركز على تعزيز التعاون الاقتصادي بدلًا من تغييرات جيوسياسية، فإن العلاقات الاقتصادية القوية والتطورات الإيجابية تشير إلى إمكانية تحقيق المزيد من التكامل بين المنطقتين في المستقبل. ستستمر القمم والاتفاقيات في دفع هذه العلاقات إلى الأمام، مع ضرورة التركيز على تحقيق نتائج ملموسة في التجارة والاستثمار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك