لا تزال تهديدات الأمن البحري في باب المندب والبحر الأحمر تستقطب الاهتمام وخاصة في ظل تداعيات تلك التهديدات ومنها إغراق عدة سفن بما لا يهدد فقط البيئة البحرية وإنما الدول المعنية بمواجهة تلك التهديدات ومن بينها بريطانيا التي ترتبط بشراكة استراتيجية مع دول الخليج العربي، ففي الخامس من مارس 2024 غرقت السفينة البريطانية روبيمار بعد أسبوعين من تعرضها لهجوم من جانب الحوثيين والتي كانت محملة بالأسمدة مما أنذر بكارثة بيئية واسعة النطاق، وقد تعددت استهداف الحوثيين للسفن في تلك المنطقة الحيوية من العالم وهو الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة إلى تأسيس تحالف حارس الازدهار في ديسمبر عام 2023 ليضم عدة دول من بينها بريطانيا والذي استهدف ردع الحوثيين عن تهديد الملاحة البحرية.
ومع أهمية الجهود الإقليمية فإن الأدوار الدولية تعد مهمة لتأمين طرق الملاحة البحرية وخاصة أنها جاءت ضمن استراتيجيات وخطط عمل معلنة من جانب تلك الدول، فما هي رؤية واستراتيجية بريطانيا للأمن البحري في تلك المنطقة؟، في عام 2022 أعلنت بريطانيا «الاستراتيجية الوطنية للأمن البحري» والتي تضمنت تعريفاً لذلك المفهوم وكذلك تأكيد النهج القانوني الدولي في حماية الأمن البحري وخاصة تطبيق مضامين اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 والتي تتضمن العديد من المواد القانونية بشأن حقوق الدول في البحار، وتضمنت الاستراتيجية خمسة أهداف وما يهمنا منها هو الهدف الثالث المتمثل فيما أطلقت عليه الاستراتيجية «ضمان الرخاء في مجال الأمن البحري» وتضمن أهدافاً أخرى فرعية منها تأمين السفن والحد من الحوادث البحرية وحماية الملاحة البحرية في نقاط الاختناق والممرات البحرية الاستراتيجية مع الإشارة لمضيقي هرمز وباب المندب كممرين استراتيجيين رئيسيين للملاحة البحرية، وأن ذلك يتم من خلال العمل مع الشركاء»، وكان لافتاً أيضاً الإشارة إلى أن «بريطانيا سوف تحتفظ بوجود أمني عالمي من خلال نشر المزيد من السفن والغواصات والبحارة ومشاة البحرية لحماية ممرات الشحن ودعم حرية الملاحة».
وواقع الأمر أن تلك الاستراتيجية – برغم أهميتها – لم تكن منشأة لاهتمام بريطانيا بتأمين الملاحة البحرية في منطقة الخليج العربي، فقد كانت هناك استراتيجية أخرى لبريطانيا حول الأمن البحري في عام 2014 إلا أن المستجدات والتطورات قد تطلبت تعديلاً جوهرياً على تلك الاستراتيجية.
وعلى صعيد الجهود البريطانية خلال تحالفات حماية الملاحة البحرية في منطقة الخليج العربي، فخلال الحرب العراقية- الإيرانية والتي تخللتها ما عرفت «بحرب الناقلات» التي بدأت مع استهداف ناقلات النفط التي تخرج وتقصد موانئ الخليج مما حدا بالولايات المتحدة لتأسيس «عملية الإرادة الجادة» «تحالف الراغبين» لحماية ناقلات النفط، فقد تمثلت المساهمات البريطانية في: مدمرة، 3 فرقاطات، 4 قانصات ألغام، سفينة إصلاح، وسفينة دعم، وهي مساهمات مهمة بالنظر إلى تردد بعض الدول الأوروبية آنذاك للمشاركة في تلك العملية التي مثلت تهديداً مباشراً لنقل النفط الخليجي للدول الغربية، وخلال التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير دولة الكويت عام 1991 شاركت بريطانيا بـ28 سفينة حربية وغواصتين ضمن الجهود الدولية آنذاك بالإضافة إلى قوات الأسلحة الأخرى، مروراً بعام 2019 عندما شهدت ناقلات النفط في الخليج العربي اعتداءات متكررة وإعلان إدارة الرئيس دونالد ترامب تأسيس التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي أعلنت بريطانيا الانضمام لذلك التحالف من بين 6 دول أخرى من بينها ثلاث دول خليجية، وقد تولت بريطانيا قيادة ذلك التحالف في يناير 2020 مدة أربعة أشهر وقد أشار العميد بحري جيمس باركن القائد البريطاني للتحالف آنذاك إلى أن «التحالف الدولي لأمن الملاحة البحرية ملتزم بضمان سلامة الملاحة البحرية في منطقة الخليج العربي والذي يضم واحداً من أهم المعابر المائية في العالم» وأضاف: «نحن ندرك أهمية حرية الملاحة وسوف نحرص على حمايتها من خلال دول التحالف»، والجدير بالذكر أنه في أعقاب احتجاز الحرس الثوري الإيراني لسفينة كانت تحمل علم بريطانيا عام 2019 خلال عبورها مضيق هرمز أعلنت البحرية البريطانية مرافقة 50 سفينة تجارية عبر مضيق هرمز بعد صدور بيان رسمي بريطاني حول طبيعة تلك العملية وأهدافها، وصولاً إلى عام 2023م حيث أعلنت بريطانيا أيضاً الانضمام إلى تحالف حارس الازدهار الذي أعلنت الولايات المتحدة عن تأسيسه لحماية الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وفي نوفمبر 2023 أعلنت البحرية البريطانية إرسال السفينة «دايموند» إلى منطقة الخليج العربي من أجل ضمان حرية الملاحة وطمأنة السفن التجارية وضمان التدفق الآمن للتجارة في تلك المنطقة الحيوية من العالم.
ومع أهمية ما سبق، ففي تقديري أن مساهمات بريطانيا في حماية الأمن البحري في الخليج العربي تنطلق من ثلاثة أسس مهمة أولها: الخبرة التاريخية الممتدة لبريطانيا بشأن أمن الخليج العربي عموماً وطرق التجارة البحرية على نحو خاص وهو ما اتضح خلال مساهماتها الفعالة في كل تحالفات حماية الملاحة البحرية في الخليج العربي، وثانيها: علاقات الشراكة المتميزة بين بريطانيا ودول الخليج العربي عموماً ومملكة البحرين على نحو خاص.
وثالثها: أن بريطانيا هي مقر المنظمة البحرية الدولية وهي إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة تم تأسيسها عام 1948 وتتمثل أهدافها في ضمان السلامة والأمن في مجال النقل البحري وحماية البحار والمحيطات من التلوث البحري بما يعنيه ذلك من أن تلك المنظمة هي بيت خبرة عالمي عامة ولبريطانيا على نحو خاص بشأن الحفاظ على الأمن البحري في منطقة الخليج العربي ومناطق أخرى من العالم.
ومع أهمية تلك الجهود فإن تداعيات تهديدات الأمن البحري في باب المندب والبحر الأحمر ومن بينها إغراق بعض السفن يتطلب المزيد من التعاون البريطاني – الخليجي وخاصة في مجال التعامل مع إدارة الكوارث البحرية التي تترتب على إمكانية حدوث تلوث بيئي واسع النطاق جراء إغراق تلك السفن وهو أمر يهم الجانبين، من ناحية ثانية وفي ظل توجه كل الدول لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجالات الأمنية والعسكرية فإن ثمة حاجة للتعاون في هذا المجال وخاصة أن بريطانيا لديها تجربة في توظيف الذكاء الاصطناعي، لكشف قوارب المهاجرين التي تعبر بحر المانش، وأخيراً فإن مناورات الأمن البحري المشتركة مجال مهم للشراكة البحرية بين دول الخليج العربي وبريطانيا.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك