يوما بعد آخر وفي ظل الظروف الإقليمية والعالمية الراهنة تتعاظم أهمية قطاع الصناعات والخدمات البحرية بشقيه العسكري والمدني، والذي يعنى بتصميم وإنشاء وبناء السفن، القوارب، ومختلف أنماط الهياكل العائمة، والمحركات البحرية، وتصميم وإنشاء المنصات البحرية والجزر الصناعية ومحطات تزويد السفن بالوقود، وصناعة إصلاح السفن وصيانتها والخدمات اللوجستية التي يتطلبها النقل البحري.
وعلى صعيد دول مجلس التعاون الخليجي، تُعد الصناعات والخدمات البحرية من القطاعات التي يتوفر لها العديد من المقومات كالموقع الجغرافي المتميز، والموروث التاريخي الحافز، والدعم الحكومي متعدد الأوجه، والبنية التحتية المتكاملة، والموارد البشرية الذكية والمؤهلة، والطلب الإقليمي المتنامي، وتوفر المواد الأولية والصناعات المغذية والطاقة، والخبرات الطويلة في مجال الأعمال البحرية وإصلاح وصيانة وتشغيل السفن. فقد تميزت دول الخليج منذ أقدم الأزمنة في صناعة السفن التي مرت بمراحل تطورية عديدة، كما تشير إلى ذلك الدراسات التاريخية التي تتبعت تطور صناعة السفن في الخليج العربي، فكانت الزوارق البدائية عبارة عن طافيات (قرب) مصنوعة من جلد الحيوانات تلا ذلك ظهور الأطواف أو الرماثين ثم الزوارق الشجرية ثم الزوارق المصنوعة من القصب أو جريد النخيل وصولا إلى القوارب والسفن الخشبية ثم الزوارق المعدنية وزوارق الفايبر غلاس وزوارق الحديد والصلب وغيرها من المواد التي تدخل في صناعة بدن السفينة. ومما ينبغي ذكره أن جلجامش قد ضمن في ملحمته التاريخية فصلا عن صناعة السفن آنذاك. وفي العصر الحديث تمتلك دول مجلس التعاون الخليجي الريادة الإقليمية في صناعة وتجميع السفن، حيث أنشئت فيها العديد من الورش والمصانع لتصنيع وصيانة سفن الصيد منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ثم توجهت نحو صناعة السفن والزوارق الحربية منذ عقد الثمانينيات وبالتعاون مع الدول والشركات ذات القدم الراسخة في مجال الصناعة البحرية بغية تدعيم قواتها البحرية، فمثلا مملكة البحرين دشن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المعظم أول سفينة حربية في 20 مارس 1979م، وهي سفينة (الزبارة)، وفي عام 1982 دشن رئيس الوزراء الراحل المغفور له بإذن الله صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة سفينة (حوار)، وفي عام 1983 دشن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المعظم مجموعة من السفن البحرية (الجارم، والجسرة، وعجيرة) وبما يعزز من إمكانات سلاح البحرية الملكي البحريني. وفي عام 1984 دشن المغفور له بإذن الله صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة المعظم أمير البلاد الراحل السفينة الصاروخية (أحمد الفاتح). وبمرور الزمن توافرت فيها أغلب متطلبات البنية التحتية للصناعة البحرية كالمراسي والموانئ الحديثة المزودة بخدمات متكاملة.
وفي مجال البنية التحتية البحرية نجحت مملكة البحرين منذ زمن مبكر في إنشاء أحد أكبر الأحواض الجافة لإصلاح السفن في العالم الذي تملكه الشركة العربية لبناء وإصلاح السفن (أسري) وتمتلك فيه البحرين الحصة الأكبر، والذي شهد تحديثات وتطورات متلاحقة جعلت منه واحدا من أرقى الخيارات تنافسية لدى شركات النقل البحري إقليميا وعالميا، حيث يحتوي على عدة خدمات رئيسية هي إصلاح وتحويل سفن النقل والشحن، وإصلاح وتحويل السفن الحربية، وإصلاح وتحويل المنصات البحرية، والتصنيع والهندسة، فيما تمكنت الشركة العالمية للصناعات البحرية في المملكة العربية السعودية من إنشاء أكبر حوض بحري متكامل الخدمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبلغ مساحته 12 مليون متر مربع تقريباً، مع مخطط طموح لتحقيق التوسّع على الصعيد العالمي من خلال توفير خدمات بحرية متقدمة ومستدامة، والأمر ذاته لبقية دول المجلس التي شهدت نشاطا صناعيا ولوجستيا متميزا في مجالات التصنيع والخدمات البحرية، مستفيدة من توفر الفرص الاستثمارية في هذا القطاع، وما يتيحه الموقع الجغرافي لدولها الممتد على ثلاثة بحار هي الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب، واتساع سهولها الساحلية لآلاف الكيلومترات، وتوفر البيئة البحرية الجيدة، فضلا عن الحوافز الاستثمارية المتاحة للقطاع الصناعي، ومحاولات بعض رواد الصناعة البحرية في دول المجلس الهادفة إلى إلحاقها بمثيلاتها العالمية وتمكينها لتحتل مساحة واسعة في حلبة السباق والمنافسة الدولية وذلك بتطبيق المواصفات العالمية في الجودة ونقل التكنولوجيا وتطوير صناعة المواد المغذية. كما أن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة واشتداد الاختلال في الأمن البحري الإقليمي لاسيما في مناطق البحر الأحمر والبحر العربي المطلة على اليمن، وما تتعرض له السفن من هجمات ممنهجة، تعزز من أهمية الاهتمام بالقوة البحرية والقطاع الصناعي البحري، وملاحقة التطورات العالمية في مجال صناعة السفن والزوارق العائمة تحت الماء، والزوارق ذاتية الحركة، والطائرات البحرية العائمة تحت الماء دون طيار، وغيرها من التقنيات البحرية التي تعزز القدرة البحرية الخليجية والأمن البحري الخليجي، وخاصة أن القاعدة الأساسية لتنمية الصناعات البحرية في بعدها الصناعي الفني والفلسفي والمالي والبشري متاحة وميسرة في أغلب دول مجلس التعاون الخليجي.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك