في تقرير سري رفعه لورنس العرب إلى المخابرات البريطانية في شهر يناير 1916 بعنوان (سياسات مكة)، الأهداف الرئيسية لبريطانيا، وللغرب عامة: «أهدافنا الرئيسية؛ تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب، وهم الأقل وعيًا للاستقرار من الأتراك، فسيبقون في دوامة من الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتنافرة، غير قابلة للتماسك».
هل هذا الكلام صحيح؟ ومن هو لورنس العرب؟
لورنس العرب هو الكولونيل توماس إدوارد لورنس من مواليد عام 1888، وهو عالم آثار وضابط جيش ودبلوماسي وكاتب بريطاني. ولد طفلا غير شرعي لوالدته سارة جونر (1861–1959) التي كانت تعمل مربية ومعلمة أطفال، ووالده السير توماس تشابمان (1846-1919) وهو أحد النبلاء من أصل أنجلو إيرلندي. كان والده قد هجر زوجته الأولى وعائلته في إيرلندا ليعيش مع سارة التي أنجب منها لورنس خارج إطار الزواج. في عام 1896، انتقل لورانس إلى أكسفورد والتحق بالمدرسة الثانوية، ثم درس التاريخ في كلية يسوع في أكسفورد من عام 1907 إلى عام 1910، وبين عامي 1910 و1914 عمل كعالم آثار في المتحف البريطاني، وبشكل رئيسي في قرقميش في سوريا العثمانية.
بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، تطوع لورنس للالتحاق بالجيش البريطاني وتمركز في المكتب العربي (الذي تأسس عام 1916) في وحدة الاستخبارات في مصر. في عام 1916، سافر إلى بلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية في مهام استخباراتية وسرعان ما انخرط في الثورة العربية وأصبح حلقة وصل بين القوات العربية وضباط بريطانيين آخرين.
وبعد الحرب العالمية الأولى، انضم لورانس إلى وزارة الخارجية البريطانية، وعمل مع الحكومة البريطانية، في عام 1922 انسحب من الحياة العامة وقضى السنوات اللاحقة وحتى عام 1935 يخدم مجندا في سلاح الجو الملكي، وخدم فترة وجيزة في الجيش، خلال تلك الفترة نشر كتابه الشهير المسمى (سبعة أعمدة للحكمة أو ما يسمى اليوم أعمدة الحكمة السبعة) عام 1926، وهي سيرة ذاتية يتحدث فيها عن مشاركته في إسقاط الدولة الإسلامية وتفتيت الوطن العربي.
يقول زهدي الفاتح في كتابه (لورنس العرب على خطى هرتزل): حصل، بعد تخرجه من أكسفورد سنة 1910، بواسطة معلمة هوغارث، على منحة خولته الاشتراك في رحلة علمية للتنقيب عن الآثار في قرقميش (جرابلس) بآسيا الصغرى – هذه المنطقة تابعة الآن لسوريا – وقد ظلت مهمة هذه البعثة سرًا دفينًا، إلا أن أفرادها كانوا يعملون في مناطق مهمة للغاية، عسكريًا واستراتيجيًا، ويمكن تشبيه مهمة هذه البعثة ومموليها بأية بعثة أمريكية مماثلة في هذه الأيام، تمولها المخابرات الأمريكية المركزية.
ألحق لورنس بمدرسة للإرساليين الأمريكيين في جبيل بلبنان، لتحسين لغته العربية، قال في ذلك: لسبب ما يريدني هوغارث إتقان العربية.
التحق هوغارث في نهاية فبراير 1910، بلورنس، تم توجها معًا بالبحر لزيارة جبل الكرمل، ناثارت، وقرى اليرموك. ومن درعا استقلا قطار خط الحجاز إلى الشام، فحمص فحلب، حتى وصلا إلى قرقميش في نهاية مارس.
ارتاب الأتراك في سنة 1912 بأمر لورنس فكتب إلى هاغارث يقول: هذه الدولة العجوز، ما زال فيها بعض حياة بعد، إنها تراقبني.
في يناير 1914 انخرط رسميًا في سلك الاستخبارات البريطانية العسكرية.
أما عن طبيعة مهمته قال لورنس نفسه في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة): «وبالنسبة إلى عملي على الجبهة العربية فقد قررت أن يكون ذلك دون مقابل، فالحكومة البريطانية التي حثت العرب على القتال من أجلنا، كانت مقابل وعود محددة لإنشاء دول عربية مستقلة بعد انتهاء الحرب. والعرب يثقون بالأشخاص، وليس بالمؤسسات. فهم رأوا فيّ عميلاً حرًا للحكومة البريطانية، وطلبوا مني العمل على تطبيق تلك الوعود المكتوبة من قبل الحكومة. لذلك فقد كان عليّ أن أنضم إلى المؤامرة، وأن أقوم بإعطاء تأكيدات كلامية للرجال بأنهم يستحقون مكافأتهم. وخلال سنتين من العمل المشترك في ظل المعارك المستعرة، فقد اعتادوا على تصديقي ويظنون أن حكومتي كمثلي أيضًا، بأنها كانت مخلصة في وعودها. وفي ظل هذا الأمل، فهم قاموا ببعض الأمور الرائعة، ولكن بالطبع فبدلاً من أن نكون فخورين بما قمنا به سويا، فإنني كنت خجلاً باستمرار وبشدة من نفسي.
كان واضحًا منذ البداية، أنه في حال كسبنا الحرب، فإن هذه الوعود ستكون عبارة عن ورقة ميتة».
وفي مكان آخر من الكتاب يقول: «وكان الواحد – يقصد بعض الشباب الإنجليز – يرى من خلالهم كم من العظمة أن يكون واحدًا منهم، أن يكون إنجليزًا، وكنا نرمي بهم في أتون النار، إلى أسوأ الميتات، وذلك ليس لكسب الحرب وإنما ليكون لنا بترول الشرق ومنتوجاته الزراعية. وكان المطلب الوحيد هو هزم أعدائنا، وهذا ما حققته في نهاية الأمر حكمة (اللنبي).. يواصل ويقول: «وإنني لفخور جدًا من أن المعارك التي خضتها وقدمتها لم تكلف أي إراقة دماء لجندي إنجليزي».
بالإضافة إلى ذلك فقد كان لورنس يقوم ببعض الأعمال الأخرى للاستخبارات البريطانية؛ إذ يقول وهو يصف عمله اليومي في يونيو 1915 «حسنًا، الرسم والإشراف على رسم الخرائط، الإشراف على طباعة وتغليف الخرائط، والجلوس في مكتب يقوم بترميز البرقيات وفك تشفيرها، وإجراء مقابلات مع السجناء وكتابة التقارير وإعطاء المعلومات من الساعة 9 صباحًا حتى 7 مساء».
يقول دافيد مواري في كتابه (لورنس العرب – القيادة، الاستراتيجيات، الصراعات): «من أهمية العمل المهم الذي يقوم به، حيث كانت إحدى مهامه الأساسية هي تجميع ملفات تعريف للقادة العسكريين والسياسيين العثمانيين وكتابة التقارير عن الأراضي العثمانية، وبالفعل كتبها بأسلوبه الخاص».. يواصل ويقول: «كان لورنس هو الضابط المناسب لمقابلة السجناء بسبب مهاراته اللغوية ومعرفته بالقضايا القبلية.. وكان يفضل أسلوبًا وديًا ومحبًا، ووجد أنه عند إظهار معرفته بالأراضي العثمانية في فلسطين وسوريا، غالبًا ما يتحدث هؤلاء السجناء بحرية تامة وخاصة رجال القبائل العربية الذين تم تجنيدهم».
يقول مؤلف كتاب (إسرائيل الكبرى) الدكتور أسعد رزوق: «ومن المؤكد أن الصهيونيين الذين كانوا يمولون لورنس – بمعرفة الدولة البريطانية أم من دون معرفتها.. لا فرق – لإقامة دولة قومية عربية، متخلية كل التخلي عن الإسلام، في سورية كانوا يباركون أيضًا إيمان لورنس في ذلك الحين، القائم على أن من مصلحة بريطانيا الإبقاء على الشرق الأوسط منقسمًا على نفسه، مفتتًا إلى دويلات متناحرة، ومتنافرة بعد القضاء على عامل توحيدهم وتماسكهم».
ويؤكد مؤلفا (الوقائع السرية في حياة لورنس العرب) فيليب نايتلي وكولين سمبسون؛ أنه بغض النظر عن ادعاء لورنس السعي إلى منح العرب الحرية والاستقلال، فقد كان مصممًا على إلحاق البلدان العربية بالإمبراطورية البريطانية.
أما لماذا أعطى لورنس ذلك الوعد، فيقول المؤلفان: إن دوافع لورنس إلى ذلك تتركز في يقينه أن ذلك الوعد هو الوسيلة الأفضل لدفعهم للقتال إلى جانب الإنجليز، على الرغم من معرفته أن السياسة البريطانية، وهو واحد من المخططين لأسسها، لن تنفذ أبدًا ذلك الوعد، الذي حلم به العرب طويلاً ومن أجله حاربوا، وذلك بدليل قول لورنس إلى واحدة من أعز صديقاته: «لقد ساعدت على حبك المؤامرة، وخاطرت لإيماني أن وقوف العرب إلى جانبنا هو عامل حيوي لتحقيق أملنا بانتصار سريع، بخس الثمن في الشرق الأوسط، والأفضل لنا أن ننتصر وننكث بوعدنا من أن ننكسر».
وما أشبه اليوم بالبارحة، وهذا ما يجري اليوم على الساحة العربية.
وتمخضت كل هذه التحركات والمخططات والخيانات عن أمرين كانا وما زال لهما تأثير في الأمة العربية الإسلامية، وهما: اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916، وهي الاتفاقية التي بموجبها قسم الوطن العربي الإسلامي بين بريطانيا وفرنسا، ووعد بلفور الذي تم إعلانه سنة 1917 الذي أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى بهدف دعم تأسيس وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، التي كانت منطقة عثمانية ذات أقليّة يهوديّة (حوالي 3-5% من إجماليّ السكان).
هذا ما حدث، وما زال يحدث، فالمسرحية ما زالت تُعرض ولكن بأسماء أبطال مختلفين.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك