من الواضح أن السفير الإسرائيلي المنتهية فترته لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، مر بتجربة غير سارة في أكبر مؤسسة دولية في العالم، ألا وهي منظمة الأمم المتحدة.
وفي مقابلة نشرتها صحيفة معاريف الإسرائيلية بتاريخ 20 أغسطس 2024، قال المبعوث الساخط إنه «يجب إغلاق مبنى الأمم المتحدة ومحوه من على وجه الأرض».
وسواء أدرك إردان هذا الأمر أم لا، فإن تصريحه العدواني يشير إلى أن مسيرته المهنية التي دامت أربع سنوات ككبير دبلوماسيين إسرائيليين في الأمم المتحدة كانت فاشلة.
وفي المقابلة، أعرب إردان عن رغبته في أن يصبح رئيس حزب الليكود، الحزب اليميني الذي يتزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو. وقد تكون لغة إردان العنيفة هي طريقته في جذب الناخبين اليمينيين واليمين المتطرف الذين يتغذون على مثل هذا العنف.
ومع ذلك، هناك ما هو أكثر من كراهية إردان لمنظمة الأمم المتحدة من مجرد الإحباط الذي يشعر به دبلوماسي محبط.
وفقاً للخطاب السياسي الإسرائيلي، فإن الأمم المتحدة هي منظمة «معادية للسامية»، وهي تسمية يستخدمها الإسرائيليون غالباً عندما تتعرض بلادهم لأدنى انتقاد.
إن علاقة إسرائيل بالأمم المتحدة غريبة بشكل خاص لأن إسرائيل أنشئت بقرار من الأمم المتحدة، وهو في حد ذاته نتيجة مباشرة للمؤامرات السياسية للأمم المتحدة والضغوط الغربية.
وفي 29 نوفمبر 1947، أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 181، الذي يدعو إلى تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولة يهودية ودولة عربية، وقد خصصت معظم الأراضي، 56%، للسكان اليهود، ثم الأقلية، والباقي للسكان العرب الفلسطينيين.
وبعد فترة وجيزة، بدأت القيادة اليهودية الصهيونية حملة عسكرية أدت إلى احتلال معظم أراضي فلسطين كما قامت بتطهير عرقي لمعظم سكانها الأصليين.
تم قبول إسرائيل كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة في 11 مايو 1949، في حين بقي السكان الفلسطينيون الأصليون بلا دولة. ورغم أن قبول إسرائيل في الهيئة الدولية كان مشروطا بقبول القرارين 181 و194 – بشأن وضع القدس وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين – إلا أن انتهاكات إسرائيل لهذين القرارين وغيرهما أفلتت من العقاب، وذلك بفضل الدعم القوي من واشنطن وغيرها من القوى الغربية.
وفي شهر يونيو 1967، تم احتلال بقية فلسطين التاريخية. ومرة أخرى، تعرض مئات الآلاف من الفلسطينيين للتطهير العرقي، ومنذ ذلك الحين، يعيش الفلسطينيون الباقون في ظل نظام حائر قائم على الاحتلال العسكري والفصل العنصري والحصار وحالة الحرب المستمرة.
إن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة هي تتويج لجميع المظالم التي لحقت بالشعب الفلسطيني على مدى العقود الماضية. لم تبدأ الحرب في 7 أكتوبر 2023، ولن تنتهي عندما يتم إعلان وقف إطلاق النار نهائيًا.
وبصرف النظر عن وعد بلفور المشؤوم، حيث تعهدت بريطانيا بإقامة دولة يهودية في فلسطين التاريخية في نوفمبر 1917، يمكن القول إن قرار الأمم المتحدة رقم 181، الذي سمح بإنشاء إسرائيل، هو أصل كل المعاناة الفلسطينية.
وطوال هذا التاريخ الدموي الظالم، لم تعاقب الأمم المتحدة إسرائيل ولم تمنح الفلسطينيين العدالة التي طال انتظارها. بل إنها فشلت في تنفيذ أو إنفاذ أي من قراراتها اللاحقة التي تعترف بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ومع ذلك، يواصل الفلسطينيون اللجوء إلى منظمة الأمم المتحدة، لأنها المنبر الدولي الوحيد الذي يمكنه تذكير إسرائيل والعالم باستمرار، بأن تل أبيب هي قوة احتلال، وأن القوانين الدولية والإنسانية يجب أن تنطبق على الفلسطينيين كأمة محتلة.
لقد تم تكرار هذه التذكيرات مراراً وتكراراً في الماضي، في الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة وحتى في مجلس الأمن، مما أثار استياء إسرائيل ومؤيديها الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان الموقف القانوني الثابت الأخير قد تم توضيحه من خلال الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو 2024. وبعد الشهادات والمداخلات التي أدلى بها ما لا يقل عن 52 دولة وعدد لا يحصى من الخبراء، قررت محكمة العدل الدولية أن «الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، غير قانوني ويشكل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني»، إلى جانب نظام الاستيطان المرتبط بها والضم واستخدام الموارد الطبيعية.
وعلى الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة لم تحدث أي فرق في إجبار إسرائيل على إنهاء احتلالها، أو تفكيك المستوطنات غير القانونية، أو احترام حقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين، إلا أن المؤسسة الدولية تظل مصدر إحباط لإسرائيل.
ومنذ قيامها على أنقاض بيوت الفلسطينيين، عملت إسرائيل على تغيير وضع فلسطين واللاجئين الفلسطينيين، وتحدت باستمرار مصطلح «الاحتلال» نفسه. لقد ظلت تسعى لإعادة كتابة التاريخ، وضمت الأراضي الفلسطينية والعربية بشكل غير قانوني، وبنت مستوطنات غير قانونية وكأنها «حقائق على الأرض» دائمة.
وفي عام 2017، بدا الأمر كما لو أن إسرائيل كانت تنجح في سعيها لإلغاء القضية الفلسطينية تمامًا عندما اعترفت واشنطن بمطالبات إسرائيل الاحتيالية بالقدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. ومع ذلك، لم يحذو العالم حذو اسرائيل، كما أظهر الحكم القانوني الأخير الذي أصدرته محكمة العدل الدولية.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالأمم المتحدة، تظل إسرائيل قوة احتلال، ملزمة بالقوانين والأعراف الدولية.
ورغم أن هذه الحقائق تظل بالنسبة للفلسطينيين مجردة من المعنى العملي، إلا أنه بالنسبة لإسرائيل، فإن موقف الأمم المتحدة يمثل عقبة رئيسية في وجه مشروعها الاستعماري الاستيطاني الصارخ. ولهذا السبب يريد جلعاد إردان «محو الأمم المتحدة من على وجه الأرض».
وحتى لو حصل الدبلوماسي الإسرائيلي الغاضب على رغبته، فلن يغير أي شيء هذه الحقيقة التاريخية: إسرائيل ستبقى نظاماً استعمارياً، وستستمر فلسطين في المقاومة، حتى يتم تحقيق العدالة أخيراً.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك