رحل عن عالمنا في 14 أغسطس الماضي، عن عمر يناهز الثمانين عامًا، قامة فكرية هائلة تُعد من كبار مفكري العالم العربي الذين يتميزون بثقافتهم الموسوعية وعمق تحليلاتهم لمشكلاته التاريخية والسياسية والاقتصادية. إنه المفكر والكاتب والخبير الاقتصادي اللبناني جورج قرم. وهو لمن لا يعرفه من مواليد الإسكندرية عام 1940 التي هام بها عشقًا. ينحدر «قرم» من عائلة مشبعة بالثقافة والفن، فجده وأبوه كانا رسامين مشهورين في لبنان.
وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة الجيزويت بالقاهرة، والتحق بعدها بكلية الحقوق ومعهد العلوم الاقتصادية في باريس. وكان مهمومًا بظاهرة التوزع المجتمعي للسلطة في لبنان على الأساس الطائفي فأعد أطروحة للدكتوراه في باريس عام 1966، عنوانها «تعدد الأديان وأنظمة الحكم». ولجورج قرم عشرات المؤلفات المهمة تُرجمت إلى العربية، من أهمها: انفجار المشرق العربي، وشرق وغرب، والمسألة الشرقية، ونال عنه جائزة الأكاديمية الفرنسية لعام 2018.
تبوأ المفكر «جورج قرم» مناصب عديدة في لبنان وخارجه، فكان أستاذًا جامعيًا، وتولي وزارة المالية، حيث وضع إصلاحًا سدد به مديونيات لبنان وأعاد التوازن الى ميزان مدفوعاته، وبات معروفًا بأنه «كان من أنقى السياسيين الذين عرفهم لبنان».
تأثر «قرم» خلال حياته في فترة الخمسينيات بالفكر الناصري وخطابات عبدالناصر المناهضة للإمبريالية، وثار ضد العدوان الثلاثي عقب تأميم قناة السويس عام 1956، وتحمس للتيارات التقدمية العلمانية، وفجعه وقوع العالم العربي ضحية لسياسات الغرب ومحاولاته لتحقيق مآربه إبان الحرب الباردة. يعلق «قرم» على ذلك قائلًا: «اتسمت الأعوام الأخيرة للحرب الباردة في الثمانينيات بحشد الغرب للأديان ضد عدوين لدودين له: الماركسية والحياد الإيجابي أي حركة عدم الانحياز، تحت تأثير تيتو وجمال عبدالناصر ونهرو».
وعن خبراته في الميدان الاقتصادي والمالي في لبنان والجزائر، التي عُين فيها مستشارًا اقتصاديًا رفيع المستوى، يقول «قرم»: «أحد الدروس التي استخلصتها من عملي في الاقتصاد هو أن الريع الذي تجلبه المواد الأولية لا مفر له من أن يتحول بعد زمن إلى عاهة لأن المجتمع الذي يريد حقًا امتلاك التكنولوجيا لا بد أن يشعر بالمعاناة والحاجة إليها، وهو ما يفتقده المجتمع الريعي الذي يشتريها جاهزة من دون معاناة».
وحول استغلال الأديان أداة للهيمنة الغربية يقول «قرم»: «ظاهرة الخوف من الإسلام تقليعة حديثة. في شبابي وأثناء دراساتي لم تكن موجودة وإنما ظهرت منذ أن خرجت أطروحة صمويل هنتنجتون حول صدام الحضارات التي يجعل فيها من اختلاف القيم الثقافية والدينية والأخلاقية المصدر الحقيقي لأزمات العالم. وقد أراد هنتنجتون بتفسيره هذا أن يُحيي الثنائية العنصرية التي كان المؤرخ الفرنسي أرنست رينان ينادي بها في القرن الـ19 وبمقتضاها يقسم العالم إلي عالمين: العالم الآري المتحضر ذو الاثنية الرفيعة، والعالم السامي الميال بطبعه إلى العنف والفوضي»
خطط الغرب أيضًا لإشعال الثورة الإيرانية عام 1979، إذ رأى في قيامها وسيلة ناجعة للحيلولة دون وصول القوميين من أشباه محمد مصدق إلى سدة الحكم بعد الشاه، وكان يظن أن إيران ستصبح حليفًا له، ولما تكشف له العكس انقلب عليها ونجح في تأجيج الفتنة بين الشيعة والسنة ليرد كل النوازل السياسية لها، وكلما طرأت كارثة في المنطقة العربية تبسط المحللون الغربيون في تفسيرها بمصطلحات الصراع الشيعي -السني!
ركز «جورج قرم» انتقاداته على التبسيط المخل الذي تفرضه القراءات الغربية المصطنعة للأحداث السياسية على العرب بعيدًا عن التفسير الموضوعي للواقع.
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب -جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك