منذ أن خرجت من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تتعثر بأزمات، ما كانت تواجهها لو أنها لم تستجب لنداء العاطفة الوطنية والقومية الساذجة الذي كان عنوانا لاعترافها بأنها لم تعد بريطانيا العظمى التي لا تغيب عن أراضيها الشمس وأنها صارت عبارة عن بركة ضيقة وضحلة تعجز عن استقبال وإيواء الكثير من أنواع السمك التي كانت في الماضي قد جعلت من لندن عاصمة عالمية.
من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بريطانيا منذ نهاية عام 2016 قد ألقت بظلالها على مستوى العيش في بلد كان من الصعب توقع أن يكون فيه فقراء كما لو أنه واحد من بلدان العالم الثالث الفقير. غير أن كل الإحصاءات تؤكد أن نسبة الفقراء والمشردين تزداد باطّراد وما من خطط حكومية لإيقافها.
لقد ارتفع مستوى التضخم إلى المستوى الذي أدى بالكثيرين إلى الاكتفاء بشراء المواد التي تتعلق بالعيش المباشر. ذلك ما أدى إلى أن تختفي الكثير من المقاهي والمطاعم وأسواق الثياب كما أن هناك أسواقا للملابس والأغذية مثل محلات «ماركس أند سبنسر» العريقة قد أغلقت الكثير من فروعها خشية ظروف قد تكون أقوى منها.
بعد وقت قصير أدرك البريطانيون أنهم أخطأوا حين صوتوا لصالح بريكست، وهو الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولكن حزب المحافظين الذي كان يحكم بريطانيا سعى إلى تدوير الأزمة من خلال تغيير رؤسائه الذين لم يثبت أيّ واحد منهم أنه قادر على العثور على حل عبقري يعيد إلى بريطانيا توازنها.
الأدهى من ذلك أن الحزب العريق سمح لعدد من وزرائه بتحميل المهاجرين مسؤولية الأزمة الاقتصادية باعتبارهم حملا فائضا وهو الحل المريح الذي استفادت منه أحزاب اليمين في تعبئة الرأي العام تمهيدا لتسلمها السلطة.
صارت الحرب على المهاجرين هي الشعار المضلل الذي تسلمه اليمين المتطرف بيسر لينجز انقلابه الذي بدأه ببريكست لولا أن البريطانيين صوتوا لليسار متمثلا بحزب العمال لكي يكون قائدا للمرحلة المقبلة.
كانت خسارة حكومة المحافظين اليمينية في الانتخابات الأخيرة مدوية وتجاوزت كل التوقعات. لذلك كان لا بد من أن يقع حدث يعيد اليمين (ومعه اليمين المتطرف) إلى الواجهة من خلال التلويح بخطر المهاجرين على بريطانيا. تلك هي نغمته التي أفسدها الانتصار العمالي.
تقع الجريمة التي حدثت مؤخرا في ذلك الإطار. وهي جريمة لا يشكّل المهاجرون الذين حصل الكثير منهم على الجنسية البريطانية طرفا فيها ولا علاقة لها بالهجرة التي سعى حزب المحافظين إلى إخراجها عن إطارها الإنساني حين أقرّ قانون ترحيل اللاجئين الجدد إلى دولة ثالثة هي رواندا غير أنه فشل في تحقيق مبتغاه.
وبغض النظر عن حيثيات الجريمة التي أدت إلى مقتل ثلاث فتيات على يد رجل لم تعلن الشرطة إلا عن اسمه الذي لا يدل أنه من أصول مسلمة فإن الشعارات التي رفعها المتطرفون في تظاهراتهم التي تخللتها أعمال تخريب ونهب وحرق تكشف عن ضغينة مبيتة ضد المهاجرين، المسلمين منهم بالتحديد.
تلك ظاهرة تحرج بريطانيا لا أمام مواطنيها المسلمين بحسب، بل وأيضا أمام تاريخها الديمقراطي القائم على حكم المؤسسات واستقلالها. فليس من المعقول أن تسبق جهة ما الشرطة ومن ثم القضاء في توجيه التهمة إلى شريحة من المجتمع البريطاني، ليست هناك قرينة تؤكد صلتها بالموضوع.
أما أن يتحول المهاجر إلى متهم جاهز فتلك هي مشكلة يجب على العقل السياسي البريطاني أن يواجهها بعمق ومن غير السقوط في الحلول الوسطية. ذلك لأنها تمس النظام الديمقراطي في جوهره. كان المتظاهرون قد أدركوا حجم الهوة فعرّضوا تاريخ بلادهم السياسي إلى السخرية حين وضعوا المهاجرين خارج منطقة التعامل الديمقراطي. إنهم ديمقراطيون في كل شيء إلا فيما يتعلق بالقادمين إلى بلادهم من مختلف أنحاء الأرض.
في لحظة طيش بلهاء وغبية نسي المتطرفون أن ملايين من مواطنيهم كانوا قد هاجروا إلى بلاد بعيدة من أجل أن يعيشوا حياة أفضل وليساهموا في الوقت نفسه في تحسين شروط العيش البشري.
وهو الشيء نفسه الذي يفعله المهاجرون إلى بريطانيا. وما يحاول المتطرفون القفز عليه أن العالم قد تغير. بدليل أن لندن وهي عاصمة بلادهم هي مدينة غرباء، التقوا في نقطة على الأرض ليخلقوا تاريخا للبشرية، لا تعكّره الأديان والأعراق وسواهما من أسباب العزلة.
لندن مدينة مفتوحة. وما لم تكن كذلك فإنها ستقفل الباب أمام عالميتها بعد أن خسرت أوروبا.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك