العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

لماذا فشلت استراتيجيات الردع في الشرق الأوسط؟

بقلم: د. أحمد يوسف أحمد

الخميس ٠٥ سبتمبر ٢٠٢٤ - 02:00

يُعد‭ ‬الردع‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬التفاعلات‭ ‬الصراعية‭ ‬الدولية،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تنبغي‭ ‬الإشارة‭ ‬بدايةً‭ ‬إلى‭ ‬الخلط‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬لدى‭ ‬غير‭ ‬المتخصصين‭ ‬بين‭ ‬المعنى‭ ‬الأكاديمي‭ ‬للمفهوم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينطوي‭ ‬عادةً‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬فعلي‭ ‬للقوة،‭ ‬والمعنى‭ ‬الدارج؛‭ ‬إذا‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬الذي‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬ردع‭ ‬العدو‭ ‬يعني‭ ‬هزيمته‭ ‬بعد‭ ‬توجيه‭ ‬ضربة‭ ‬عسكرية‭ ‬ناجحة‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬شيوع‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬لدى‭ ‬غير‭ ‬المتخصصين،‭ ‬هو‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬تستخدمها‭ ‬بعض‭ ‬البيانات‭ ‬العسكرية‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬السبب‭ ‬الأهم‭ ‬ربما‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فشل‭ ‬الردع،‭ ‬كما‭ ‬سنرى،‭ ‬قد‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬فعلي‭ ‬للقوة‭ ‬بغرض‭ ‬استعادته‭.‬‮ ‬

شروط‭ ‬نجاح‭ ‬الردع‭:‬

من‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬المعنى‭ ‬اللغوي‭ ‬للردع‭ ‬في‭ ‬المعاجم‭ ‬العربية‭ ‬يتسق‭ ‬مع‭ ‬محتواه‭ ‬الأكاديمي‭. ‬ففي‭ ‬معجم‭ ‬المعاني‭ ‬الجامع‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬رَدَعَ‭ ‬الرجل‭ ‬أي‭ ‬كبحه‭ ‬وأوقف‭ ‬اندفاعه،‭ ‬وارتدع‭ ‬الرجل‭ ‬بمعنى‭ ‬كف‭ ‬أو‭ ‬امتنع‭ ‬عن‭ ‬الشيء،‭ ‬وهو‭ ‬معنى‭ ‬يتسق‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬مفهوم‭ ‬الردع‭ ‬نظريا‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭. ‬فالأصل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬هو‭ ‬تهديد‭ ‬فاعل‭ ‬دولي‭ ‬ما‭ ‬لفاعل‭ ‬دولي‭ ‬آخر‭ ‬لمنعه‭ ‬من‭ ‬الإقدام‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬توجد‭ ‬عادةً‭ ‬مؤشرات‭ ‬على‭ ‬توفر‭ ‬نيته‭ ‬لفعله،‭ ‬أو‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬شرع‭ ‬فيه‭ ‬فعلاً؛‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬أن‭ ‬يضر‭ ‬بمصالح‭ ‬حيوية‭ ‬للفاعل‭ ‬مصدر‭ ‬التهديد‭.‬‮ ‬

ولكي‭ ‬ينجح‭ ‬التهديد‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬به‭ ‬فاعل‭ ‬دولي‭ ‬ما‭ ‬ردع‭ ‬خصمه،‭ ‬ثمة‭ ‬شروط‭ ‬ينبغي‭ ‬توافرها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التهديد؛‭ ‬أولها‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مستنداً‭ ‬إلى‭ ‬قاعدة‭ ‬قوة‭ ‬حقيقية‭ ‬تُمَكن‭ ‬المهدِّد‭ ‬من‭ ‬تنفيذ‭ ‬تهديده‭ ‬بنجاح‭ ‬أكيد‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬عندما‭ ‬أطلقت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬إبان‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973‭ ‬تهديداتها‭ ‬للدول‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬حظر‭ ‬النفط‭ ‬عن‭ ‬الدول‭ ‬المساندة‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬كانت‭ ‬تستند‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬كونها‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬‮ ‬

والشرط‭ ‬الثاني‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬مُطْلِق‭ ‬التهديد‭ ‬من‭ ‬إثبات‭ ‬جدية‭ ‬نيته‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬تهديده،‭ ‬كأن‭ ‬يرسل‭ ‬قطعه‭ ‬الحربية‭ ‬إلى‭ ‬المياه‭ ‬الملاصقة‭ ‬للمياه‭ ‬الإقليمية‭ ‬للخصم،‭ ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُنتهك‭ ‬هذه‭ ‬المياه‭ ‬مؤقتاً‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬طائرات‭ ‬سلاحه‭ ‬الجوي،‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬الصين‭ ‬عادةً‭ ‬في‭ ‬الأزمات‭ ‬الحادة‭ ‬مع‭ ‬تايوان‭. ‬والمهم‭ ‬أن‭ ‬يبدو‭ ‬مُطْلِق‭ ‬التهديد‭ ‬وكأنه‭ ‬فقد‭ ‬رشده‭ ‬ومستعد‭ ‬للإقدام‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬فعل‭ ‬مهما‭ ‬كلفه‭ ‬ذلك‭.‬

بينما‭ ‬يكون‭ ‬الشرط‭ ‬الثالث‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬تماما‭ ‬من‭ ‬الثاني،‭ ‬وهو‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬يتحلى‭ ‬طرفا‭ ‬معادلة‭ ‬الردع‭ ‬بالرشادة‭ ‬التامة،‭ ‬فلا‭ ‬يُطلق‭ ‬مُصدر‭ ‬التهديد‭ ‬تهديداته‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬تنفيذها‭ ‬ومستعداً‭ ‬لذلك‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يرتدع‭ ‬خصمه،‭ ‬ويدرك‭ ‬المهدَّد‭ ‬جدية‭ ‬التهديد،‭ ‬ويُجْري‭ ‬التعديلات‭ ‬الواجبة‭ ‬على‭ ‬سلوكه‭ ‬كي‭ ‬يتفادى‭ ‬التكلفة‭ ‬التي‭ ‬ستترتب‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬التهديد‭.‬

وعندما‭ ‬تتوافر‭ ‬الرشادة‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬أطراف‭ ‬معادلة‭ ‬الردع‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬إطلاق‭ ‬تهديدات‭ ‬أصلاً،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬توازن‭ ‬الرعب‭ ‬النووي‭ ‬الذي‭ ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬استكمال‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬السابق‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬هجوم‭ ‬نووي‭ ‬مباغت‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬نجح‭ ‬عام‭ ‬1957‭ ‬في‭ ‬إطلاق‭ ‬قمر‭ ‬اصطناعي‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬الخارجي،‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬توصيل‭ ‬رؤوسه‭ ‬النووية‭ ‬الحربية‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬دقة‭ ‬إصابة‭ ‬الهدف‭. ‬وهنا‭ ‬تبلورت‭ ‬معادلة‭ ‬توازن‭ ‬الردع‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أكيد،‭ ‬وظلت‭ ‬فاعلة‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

وعندما‭ ‬يفشل‭ ‬الردع‭ ‬نتيجة‭ ‬عدم‭ ‬اكتمال‭ ‬شروط‭ ‬نجاحه،‭ ‬يكون‭ ‬اللجوء‭ ‬للقوة‭ ‬حتميا‭ ‬إذا‭ ‬أراد‭ ‬الطرف‭ ‬مصدر‭ ‬التهديد‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬صدقيته‭ ‬ومكانته،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬2022‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬عمليته‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭. ‬

ولا‭ ‬توجد،‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬علم‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور،‭ ‬دراسة‭ ‬شاملة‭ ‬حللت‭ ‬نسبة‭ ‬النجاح‭ ‬والفشل‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬استعادة‭ ‬الردع،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الانطباع‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬متابعة‭ ‬هذه‭ ‬العمليات‭ ‬يطرح‭ ‬افتراضاً‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬استعادة‭ ‬الردع‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬عادةً‭ ‬بالأمر‭ ‬الهين؛‭ ‬أولاً‭ ‬لأن‭ ‬مجرد‭ ‬تحدي‭ ‬الطرف‭ ‬الذي‭ ‬أُريد‭ ‬ردعه‭ ‬للتهديد‭ ‬قد‭ ‬يعني‭ ‬اعتقاده‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬الصمود،‭ ‬أو‭ ‬ثانياً‭ ‬لأن‭ ‬السلوك‭ ‬المطلوب‭ ‬إجباره‭ ‬عليه‭ ‬يتعلق‭ ‬بقيمة‭ ‬عليا‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬التضحية‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬ثالثاً‭ ‬لأن‭ ‬الصراع‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬استقطابه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬دولي‭ ‬يتيح‭ ‬للطرف‭ ‬الذي‭ ‬جرت‭ ‬محاولة‭ ‬لردعه‭ ‬قدراً‭ ‬يُعتد‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الدعم‭ (‬كحال‭ ‬أوكرانيا‭ ‬بعد‭ ‬سنتين‭ ‬ونصف‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬الحرب‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬رابعاً‭ ‬لأن‭ ‬مواقف‭ ‬استعادة‭ ‬الردع‭ ‬قد‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬حروب‭ ‬غير‭ ‬متماثلة‭ ‬أي‭ ‬بين‭ ‬جيوش‭ ‬نظامية‭ ‬وفاعلين‭ ‬مسلحين‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الدول؛‭ ‬مما‭ ‬يُصَعب‭ ‬عملية‭ ‬حسمها‭.‬

السلوك‭ ‬الإسرائيلي‭:‬

يعنينا‭ ‬من‭ ‬التحليل‭ ‬السابق‭ ‬مدى‭ ‬فائدته‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬تطورات،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن؛‭ ‬نظراً‭ ‬لتأثير‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬في‭ ‬استقرار‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬وأمنها‭. ‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬إسرائيل،‭ ‬يجب‭ ‬التوضيح‭ ‬بدايةً،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور،‭ ‬أن‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬وما‭ ‬أفرزته‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬مفهوم‭ ‬الردع،‭ ‬فقد‭ ‬تبنت‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬مشروعاً‭ ‬سياسياً‭ ‬بتأسيس‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجحت‭ ‬فيه‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬بموجب‭ ‬قرار‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬بتقسيمها‭ ‬في‭ ‬1947،‭ ‬وما‭ ‬أفضى‭ ‬إليه‭ ‬هذا‭ ‬النجاح‭ ‬من‭ ‬مواجهات‭ ‬مع‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬والدول‭ ‬العربية‭ ‬المؤيدة‭ ‬لحقوقه‭.‬‮ ‬

ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬مفاهيم‭ ‬مثل‭: ‬التوسع‭ ‬والصراع‭ ‬هي‭ ‬الأنسب‭ ‬لوصف‭ ‬السلوك‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الدولة‭ ‬اليهودية؛‭ ‬لأن‭ ‬الرؤية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للحركة‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬تعد‭ ‬فلسطين‭ ‬كلها‭ ‬إقليماً‭ ‬للدولة‭ ‬اليهودية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقتضي‭ ‬توظيفاً‭ ‬للقوة‭ ‬وليس‭ ‬ردعاً‭ ‬للخصوم‭. ‬ولهذا‭ ‬تواطأت‭ ‬إسرائيل‭ ‬مع‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬ظهر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬1956‭ ‬في‭ ‬العدوان‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لوأد‭ ‬تجربتها‭ ‬التحررية‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬فيها‭ ‬خطراً‭ ‬وجودياً‭ ‬عليها‭. ‬

كما‭ ‬استدرجت‭ ‬إسرائيل‭ ‬كلاً‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬وسوريا‭ ‬عام‭ ‬1967‭ ‬للحرب‭ ‬التي‭ ‬مكنتها‭ ‬نتائجها‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬أراضي‭ ‬فلسطين‭. ‬وعند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬إحلال‭ ‬مفهوم‭ ‬الردع‭ ‬محل‭ ‬مفهوم‭ ‬التوسع‭ ‬بالتوظيف‭ ‬الفعلي‭ ‬للقوة،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬نتائج‭ ‬الحرب‭ ‬لم‭ ‬تردع‭ ‬مصر،‭ ‬فبدأ‭ ‬قتالها‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬الشهر‭ ‬التالي‭ ‬للهزيمة،‭ ‬وتطور‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬استنزاف‭ ‬حقيقية‭ ‬توجت‭ ‬لاحقاً‭ ‬بعمل‭ ‬مصري‭ ‬سوري‭ ‬عسكري‭ ‬مشترك‭ ‬في‭ ‬أكتوبر1973،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬مساهمات‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬وازنة‭ ‬من‭ ‬كبريات‭ ‬الدول‭ ‬المُصدرة‭ ‬للنفط‭ ‬في‭ ‬المجهود‭ ‬الحربي‭ ‬بوقف‭ ‬تصديره‭ ‬للدول‭ ‬المساندة‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬‮ ‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬أدى‭ ‬احتلال‭ ‬إسرائيل‭ ‬لما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬إلى‭ ‬صعود‭ ‬‮«‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬مفهوم‭ ‬الردع‭ ‬في‭ ‬مواجهتها،‭ ‬وإنما‭ ‬ضرورة‭ ‬القضاء‭ ‬عليها‭. ‬وفتح‭ ‬السلام‭ ‬المصري‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬1979‭ ‬الباب‭ ‬مجدداً‭ ‬لتل‭ ‬أبيب‭ ‬كي‭ ‬تتبع‭ ‬سلوك‭ ‬الردع‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬والقوى‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬على‭ ‬صراعها‭ ‬معها،‭ ‬خاصةً‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬موافقة‭ ‬قمة‭ ‬فاس‭ ‬عام‭ ‬1982‭ ‬على‭ ‬مبادرة‭ ‬التسوية،‭ ‬أن‭ ‬التعايش‭ ‬العربي‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬ممكن‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬تطورين‭ ‬مهمين‭ ‬أجهضا‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال،‭ ‬وهما‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭ ‬موقف‭ ‬العداء‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬وتصاعد‭ ‬‮«‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أجبر‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬غزو‭ ‬لبنان‭ ‬1982،‭ ‬والتي‭ ‬لفتت‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬القدرة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬الردع،‭ ‬فقد‭ ‬اجتاحت‭ ‬إسرائيل‭ ‬لبنان‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬احتلال‭ ‬عاصمتها‭ ‬بيروت،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬اتفاق‭ ‬سلام‭ ‬على‭ ‬لبنان؛‭ ‬إذ‭ ‬أسقطه‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬بضغط‭ ‬شعبي‭ ‬بعد‭ ‬توقيعه‭ ‬عام‭ ‬1983‭.‬‮ ‬

واضطُرت‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬عدا‭ ‬الشريط‭ ‬الحدودي‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تحتله‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1978،‭ ‬ثم‭ ‬أُجبرت‭ ‬لاحقاً‭ ‬على‭ ‬الانسحاب‭ ‬منه‭ ‬عام‭ ‬2000‭. ‬وبدا‭ ‬أن‭ ‬آخر‭ ‬فرصة‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل‭ ‬لردع‭ ‬لبنان‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬عملية‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬2006‭ ‬لاختطاف‭ ‬جنود‭ ‬إسرائيليين‭ ‬كي‭ ‬تتم‭ ‬مبادلتهم‭ ‬بأسرى‭ ‬لبنانيين‭ ‬وعرب‭. ‬وفي‭ ‬الرد‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬كان‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬العناصر‭ ‬اللبنانية‭ ‬بدعم‭ ‬أمريكي‭ ‬كالمُعتاد،‭ ‬لكن‭ ‬الرياح‭ ‬أتت‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬تشتهي‭ ‬السفن‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وانتهت‭ ‬الحرب‭ ‬بتسوية‭ ‬متوازنة‭ ‬بموجب‭ ‬قرار‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬1701‭.‬

ويعني‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتبع‭ ‬سلوك‭ ‬الردع‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬خصومها‭ ‬حتى‭ ‬حرب‭ ‬1967؛‭ ‬لأن‭ ‬المطلوب‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬التوظيف‭ ‬الفعلي‭ ‬للقوة‭ ‬حتى‭ ‬اكتملت‭ ‬لها‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحرب،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬فشلت‭ ‬سياستها‭ ‬في‭ ‬ردع‭ ‬مصر‭ ‬وسوريا‭ ‬فكانت‭ ‬حرب‭ ‬الاستنزاف‭ ‬وحرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973،‭ ‬ثم‭ ‬فشلت‭ ‬سياستها‭ ‬في‭ ‬ردع‭ ‬العناصر‭ ‬الفلسطينية‭ ‬واللبنانية‭ ‬فاضطُرت‭ ‬للانسحاب‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬بعد‭ ‬غزوه‭ ‬بالكامل‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬وفشلت‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬اتفاقية‭ ‬سلام‭ ‬عليه،‭ ‬واضطُرت‭ ‬كذلك‭ ‬للانسحاب‭ ‬من‭ ‬الشريط‭ ‬الحدودي‭ ‬الجنوبي‭ ‬اللبناني‭ ‬عام‭ ‬2000،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬عام‭ ‬2005‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬المستوطنات‭ ‬القريبة‭ ‬منه،‭ ‬وفشلت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬للمقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬المتصاعدة‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬عملياتها‭ ‬العسكرية‭ ‬المتكررة‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬منذ‭ ‬ديسمبر‭ ‬2008‭ ‬وحتى‭ ‬مايو‭ ‬2023‭.‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬عجز‭ ‬إسرائيل‭ ‬عن‭ ‬ردع‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بعد‭ ‬عمليتها‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023‭ ‬وحتى‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬السطور،‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الجديد‭ ‬عليها،‭ ‬لكن‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬أنها‭ ‬تواجه‭ ‬تهديدات‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬أخرى‭ ‬مساندة‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أوزانها‭ ‬النسبية‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬استعادة‭ ‬الردع‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬موضع‭ ‬شك‭ ‬كبير،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬تآكلت‭ ‬بالفعل‭ ‬للأسباب‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬ذكرها،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬كسبت‭ ‬إسرائيل‭ ‬المعركة‭ ‬الحالية؛‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يعدو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تكراراً‭ ‬لتجاربها‭ ‬مع‭ ‬‮«‬المقاومة‮»‬،‭ ‬وبالذات‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الحالي‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا