خلال الأسابيع التي أعقبت اختيار كامالا هاريس كبديل عن الرئيس جو بايدن، وكمرشحة للحزب الديمقراطي في انتخابات الخامس من نوفمبر، التحقت هاريس بمنافسها الجمهوري دونالد ترامب وتفوقت عليه باستطلاعات الرأي، لذا جاء تركيز المعلقين السياسيين بديهيا على سياساتها الداخلية والخارجية. وعلى الرغم من حديث نائبة الرئيس الحالية أمام العديد من التجمعات والأحداث السياسية خلال حملتها التي استمرت شهرًا لرئاسة الولايات المتحدة، وكذلك بختام المؤتمر الوطني الديمقراطي منتصف أغسطس، فإنه من الجدير بالملاحظة عدم إجرائها أي مقابلة مع الصحافة الأمريكية أو الدولية لعدة أسابيع؛ حيث أوضح مايكل م. جرينباوم من صحيفة نيويورك تايمز، أنها أظهرت قليلًا من الحماس لمقابلة الصحفيين بشكل ارتجالي في محاولة لتقديم تصورها العام.
وفي أول مقابلة لها كمرشحة ديمقراطية لرئاسة الولايات المتحدة، أجريت في 29 أغسطس مع شبكة سي إن إن، وبحضور المرشح لمنصب نائب الرئيس تيم والز سُئلت هاريس عن مواقفها السياسية فيما يتعلق بالقضايا المحلية مثل: مستقبل الاقتصاد الأمريكي، وكذلك السياسة الخارجية للبلاد، وأبرزها ما إذا كان سيطرأ تحول كبير في علاقة واشنطن بإسرائيل ورغبتها في وقف إطلاق النار في غزة.
وفي أثناء المقابلة، دافعت هاريس بشكل أساسي عن مواقفها، وأصرت على أنه منذ أن أصبحت مرشحة رئاسية قبل أكثر من شهر بقليل، فإن الجوانب الأكثر أهمية والأبرز في منظورها السياسي وقراراتها.. لم تتغير. وانطوت المقابلة بشكل خاص على ردها المخطط بشأن حرب إسرائيل في غزة؛ حيث سعت هاريس إلى تأكيد ما سبق أن أدلت به خلال حملتها الانتخابية حتى الآن وفي المؤتمر الديمقراطي، وهو إعادة تأكيد الدعم القوي لإسرائيل، مع التعبير في الوقت نفسه عما يعتريها من ألم إزاء معاناة المدنيين الفلسطينيين، والالتزام بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
ومع ذلك، تضمنت المقابلة رفضًا قاطعًا من هاريس للاقتراح الذي قدمه العديد من المراقبين الغربيين وطالب به أعضاء الحزب الديمقراطي باحتمالية فرض الإدارة التي تقودها تدابير أكثر صرامة ضد حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو جراء قائمة طويلة من التجاوزات للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وكذلك حظر مبيعات الأسلحة ونقلها إلى إسرائيل.
وأكدت هاريس أن نهجها لإنهاء الحرب في غزة وإدارة علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل سيعكس عن كثب نهج جو بايدن. وكررت التصريحات التي أدلت بها طوال الحملة حتى الآن، وتحدثت عن كيفية ضرورة إبرام صفقة بين إسرائيل وحماس لإنهاء الحرب. كما تطرقت مرة أخرى إلى مقتل عدد كبير جدًا من الفلسطينيين الأبرياء وكيف تدعم حل الدولتين؛ حيث يُمنح الفلسطينيون الأمن وتقرير المصير والكرامة، لكن مايك ويندلنج وماكس ماتزا من شبكة بي بي سي، أثارا انتفاء طرح هاريس لأي تفاصيل محددة حول كيفية حماية المدنيين من القصف الإسرائيلي.
وعلى النقيض من قلقها المعلن بشأن حقوق الإنسان وسلامة المدنيين الفلسطينيين، إلا أن هاريس عاودت التزامها بالدفاع عن إسرائيل، كأمر لا لبس فيه ولن يتزعزع إذا انتخبت رئيسة. ولكن في معرض ردها على اقتراح دانا باش المحاورة بشبكة سي إن إن بأن حكومتها قد تغير موقف الولايات المتحدة تجاه صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، ردت هاريس لا، وعاودت التأكيد بأن علينا أن نتوصل إلى اتفاق؛ من شأنه أن يمهد الطريق أمام الكثير مما يجب أن يتم بعد ذلك.
ومع آمال الكثيرين في تعديل هاريس لموقف الولايات المتحدة تجاه إسرائيل والحرب في غزة؛ بحيث يشبه إلى حد كبير الدور التي تبنته كمدافع دولي عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، فلا بد أن يكون هناك الآن قلق من تراجع الحكومات الغربية -كالمملكة المتحدة- التي سبق وأشارت إلى نواياها باتخاذ موقف سياسي وأخلاقي أكثر حزمًا ضد تصرفات إسرائيل، وذلك في مواجهة الضغوط الأمريكية للحفاظ على دعمها لحرب إسرائيل، بغض النظر عن التأثير المدمر الهائل على السكان المدنيين في فلسطين.
ومن تلك المواقف الغربية، قرار حكومة حزب العمال المنتخبة مؤخرًا بقيادة السير كير ستارمر بإسقاط الاعتراضات القانونية البريطانية على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بشأن ملاحقة أوامر الاعتقال الدولية ضد نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، وقد جاء هذا القرار مخالفًا لرغبات إدارة بايدن، كما هدد روبرت أوبراين مستشار الأمن القومي السابق لدونالد ترامب، بأن ما يسمى العلاقة الخاصة بين واشنطن ولندن سوف تزول حال تعارضها مع التزام الولايات المتحدة بمصالح إسرائيل ومطالبها؛ أيًّا كان الجالس بالمكتب البيضاوي جمهوريا أو ديمقراطيا.
لكن على الرغم من إصدار المملكة المتحدة هذا القرار الأخلاقي، فإنها قد منحت أكثر من 720 مليون دولار من تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل منذ 2008 وفقًا لـحملة مناهضة تجارة الأسلحة، كما أفاد باتريك وينتور من صحيفة الجارديان بمنح 108 تراخيص لتصدير الأسلحة لإسرائيل بين أكتوبر 2023 ونهاية مايو 2024. وعلى الرغم من محاولة ديفيد كاميرون وزير الخارجية السابق تبرير استمرار حكومته المحافظة على دعم الصادرات إلى إسرائيل بحجة الاختلاف الجوهري بين الوضع في الولايات المتحدة والوضع في المملكة المتحدة؛ حيث تتحمل لندن مسؤولية أقل بكثير من 1% من إجمالي واردات الأسلحة الإسرائيلية، فإن رمزية فرض الحكومة البريطانية حظرًا على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل لا يُمكن إنكارها؛ وما ينطوي عليه من رسالة مفادها عدم التساهل مع أفعال إسرائيل.
وفي الوقت الذي لا تزال فيه الخارجية البريطانية تجري تحقيقًا في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، زعم ديفيد لامي وزير الخارجية في حكومة حزب العمال أنه لن يكون من الصواب فرض حظر شامل بين بلادنا وإسرائيل؛ لكنه أقر بإمكانية فرض حظر على صادرات الأسلحة الهجومية. وفي الوقت ذاته، أفاد وينتور بأن المسؤولين الحكوميين البريطانيين يبدو أنهم علقوا معالجة تراخيص تصدير الأسلحة للمبيعات إلى إسرائيل في انتظار استكمال المراجعة التي تجريها وزارة الخارجية.
بيد أن تلك التأخيرات البيروقراطية ليست كافية بالنسبة إلى ويليام بيل رئيس شؤون سياسة الشرق الأوسط لدى مؤسسة كريستيان إيد الخيرية، الذي أقر إلى أن الطريقة الوحيدة لضمان عدم استخدام الأسلحة المباعة لإسرائيل في انتهاك لحقوق الإنسان هي الحظر الواضح، وينطبق الشيء نفسه على مارك سميث المسؤول السابق في الخارجية البريطانية الذي استقال من منصبه منتصف أغسطس؛ احتجاجًا على كيفية تواطؤ الحكومة في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل بقطاع غزة، وكيف يتوجب على المملكة المتحدة أن تكون راضية عن انتهاج الدولة المتلقية لأسلحتها سُبل جدية تحول دون وقوع إصابات بين المدنيين، وتقليل ما يلحق من ضرر بالحياة المدنية؛ ومن هنا فليس هناك من مسوغ لاستمرار مبيعات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل.
وبالنسبة إلى حكومة السير كير ستارمر، فإن رفض حكومة هاريس المستقبلية النظر في أي حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل يعني زيادة الضغوط من إدارة البيت الأبيض الحالية بل والمستقبلية للتوافق بشكل أوثق مع مصالح إسرائيل، وليس فقط فيما يتعلق بصادرات الأسلحة. وقد حذر روبرت أوبراين المستشار المؤثر في السياسة الخارجية لدونالد ترامب، من أن المضي قدمًا في حظر مبيعات الأسلحة لإسرائيل من شأنه تعريض العلاقة الخاصة بين لندن وواشنطن للخطر، وعلى وجه الخصوص تناول أوبراين دور المملكة المتحدة في برنامج مقاتلات إف-35 وما قد يمسها من ضرر؛ إذا سعت إلى تحقيق قدر أكبر من المساءلة ضد إسرائيل.
وعلاوة على ذلك، في أعقاب قرار حكومة ستارمر بإسقاط الاعتراضات القانونية البريطانية على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بشأن ملاحقة أوامر الاعتقال الدولية ضد نتنياهو وجالانت، حث أوبراين الحكومة البريطانية على التعامل بحذر شديد في كيفية تغيير علاقاتهم مع إسرائيل، والتأثير على الدول الغربية الأخرى للقيام بذلك أيضًا، وهدد بـ صدع خطير ليس فقط مع حكومة يقودها ترامب، ولكن أيضًا مع حكومة تنتمي إلى الديمقراطيين.
على العموم، إن التهديدات التي وجهها أوبراين للحكومة البريطانية، إلى جانب التزام هاريس بمصالح إسرائيل في الشرق الأوسط، تشير إلى أنه في نهاية المطاف، وبغض النظر عن نتيجة ما ستسفر عنه الانتخابات الأمريكية في نوفمبر، فإن ساكن البيت الأبيض في 2025 وما بعده هو زعيم مؤيد لإسرائيل. وبالرغم من معارض ثلاثة أرباع الناخبين الديمقراطيين للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وإعلان 12% فقط دعمهم لنتنياهو، إلا أن المقابلة التي أجرتها هاريس مع شبكة سي إن إن في أواخر أغسطس يبدو أنها حطمت بسرعة آمال العديد من المعلقين الغربيين في فرضية أن تنأى بنفسها عن سياسات بايدن الفاشلة التي رفضت حماية أمريكا المزعومة لحقوق الإنسان والقانون الدولي لصالح الدعم غير المشروط لإسرائيل بغض النظر عن العواقب.
وبالنسبة إلى حكومات بريطانيا وغيرها من الدول التي سبق أن دعمت حرب إسرائيل في غزة ولكنها غيرت مواقفها الآن نحو دعم تحقيق المحكمة الجنائية الدولية والتفكير بوقف مبيعات الأسلحة والصادرات؛ فإن مواصلة هاريس -حال انتخابها– في دعم إسرائيل على الصعيد الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والعسكري من شأنه أن يقوض بشدة أي جُهد لمحاسبة إسرائيل على أعلى مستويات السياسة الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك