هل تُصدقونني إذا قلتُ لكم إنكم لو تخلصتم من المخلفات بشكلٍ عام، وخاصة المخلفات البلاستيكية التي لا تتحلل بطريقة غير سليمة بيئيا وصحيا، فإنها سترجع إليكم مرة ثانية عاجلاً أم آجلاً، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، طال الزمن أو قصر، وتؤثر على صحتكم وتُصيبكم بالأمراض والعلل الغريبة التي لا يعلم عنها أحد؟
فهل تصدقونني في صحة هذا الادعاء، وتثقون بكلامي؟
لقد تحول هذا الادعاء الآن إلى حقيقة علمية واقعة تُسندها الدراسات المخبرية، وتدعمها الأبحاث الميدانية، وتؤكد صحتها التقارير الطبية، فأصبح هناك اليوم إجماع واتفاق عند العلماء على مصداقيتها وواقعيتها.
وسأُقدم إليكم الدليل الدامغ والشافي الذي تمخض عن آخر الأبحاث المنشورة التي سبرت بعمق غور هذه القضية الجديدة التي تعاني منها كل المجتمعات البشرية في كل أنحاء العالم بدون استثناء، سواء أكانت قريبة من المناطق والمدن الحضرية، أم كانت في الأرياف النائية وبعيدة عن الأنشطة البشرية الملوثة لمكونات البيئة.
أما الحقيقة الأولى المتعلقة بالمخلفات عامة، والمخلفات البلاستيكية خاصة فهي إنها أصبحت الآن جزءاً أصيلاً ومشهوداً من كل مكونات وعناصر بيئتنا، سواء الهواء الجوي، أو المسطحات المائية العذبة والمالحة، أو التربة الزراعية والصحراوية، بل أصبحت بسبب عدم تحللها تتراكم في هذه العناصر البيئية. فهذه المخلفات البلاستيكية مع الوقت وبفعل الظروف المناخية من حرارة ورطوبة وأشعة الشمس، إضافة إلى التيارات المائية تبدأ في التكسر الحيوي (biofragmentation)، أي أن هذه المخلفات الكبيرة تتكسر وتتجزأ مع الزمن إلى قطع وجسيمات بلاستيكية أصغر فأصغر حتى تصل إلى الجسيمات التي لا تُرى بالعين المجردة، ويُطلق عليها «الميكروبلاستيك» و«النانوبلاستيك».
والسؤال هو: هل هذه المخلفات والجسيمات البلاستيكية الصغيرة والمجهرية تبقى تراوح في مكانها في عناصر بيئتنا، أم أن لها القدرة على الحركة والتنقل وغزو جبهات جديدة أخرى لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد؟
والإجابة عن هذا السؤال تنقلنا إلى الحقيقة الثانية الموثقة مخبرياً وميدانياً، حيث أجمعت الدراسات على أن هذه الجسيمات البلاستيكية لا تَبْقى ثابتة في مكانها في مكونات بيئتنا وإنما تنتقل وتغزو أولاً بيئات جديدة نائية بعيدة عن أعين وأنشطة الإنسان كالقطبين الشمالي والجنوبي، وأعالي الجبال الشاهقة، وأعماق المحيطات المظلمة والشديدة البرودة، وثانياً لهذه الجسيمات الدقيقة القدرة على كسر جدار جسم الإنسان وغزو جميع أعضاء أجسادنا، الصغيرة منها والكبيرة، القريبة منها والبعيدة، حتى خلايا الإنسان لم تسلم من هذه الجسيمات البلاستيكية المجهرية.
وسأُقدم لكم بعض الأمثلة على غزوها أولاً للبيئات الفطرية البكر النائية، ثم كيفية دخولها لأعضاء أجسادنا. فقد نُشرت دراسة في مجلة «بيولوجيا التغيير العالمي» (Global Change Biology) في 21 أغسطس 2024 تحت عنوان: «المخلفات الطافية فوق سطح والكائنات الحية يمكن أن تغزو سواحل القطب الجنوبي من جميع البيئات البرية في نصف الكرة الجنوبية». وفي هذه الدراسة تمت مراقبة المخلفات البلاستيكية الكبيرة، مثل عبوات المياه والأكياس البلاستيكية، وكيفية تحركها وانتقالها عبر سطح مياه المحيط الهادئ من الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، وبالتحديد من أستراليا، ودولة جنوب إفريقيا، وأمريكا الجنوبية، ونيوزيلاندا، وقارة زيلانديا في المحيط الهادئ ووصولها بعد أشهر طويلة، أو سنوات إلى سواحل بحار القطب الجنوبي. فهذه الدراسة أكدت نتائج الدراسات الأخرى في أن المخلفات البلاستيكية بمختلف أنواعها وأحجامها تتحرك من موقعها الأصلي وتصل إلى مواقع تبعد آلاف الكيلومترات عنها، ثم إن هذه المخلفات تحمل على ظهرها كائنات حية نباتية وحيوانية وكائنات مجهرية دقيقة كالبكتيريا والفيروسات، فتنقلها إلى بيئات جديدة غريبة عليها، وتغزوها وتؤثر على الكائنات الفطرية الأصيلة التي تعيش فيها، وتهدد التنوع الإحيائي والنظام البيئي الفطري المتوازن والدقيق بشكلٍ عام.
أما القضية الثانية فهي دخول هذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة إلى أعضاء جسم الإنسان وتراكمها واستقرارها أخيراً في هذه الأعضاء. فهذه الجسيمات المجهرية تدخل أولاً إلى جسم الإنسان من ثلاثة منافذ رئيسة هي استنشاق الهواء الملوث بهذه الجسيمات، أي عن طريق الأنف، أو شرب وأكل مواد غذائية ملوثة بالبلاستيك، أي عن طريق الفم، أو دخولها إلى الجسم عن طريق مسامات الجلد. ومن هذه المنافذ تدخل إلى مجرى الدم والدورة الدموية فتتخطى الحاجز الفاصل بين الدم وخلايا أعضاء الجسم فتغزوها وتنتقل إليها وتبدأ في التراكم فيها مع الوقت.
ومن هذه الأعضاء المخ، والكلية، والكبد حسب الدراسة المنشورة (Research Square) في 6 مايو 2024 تحت عنوان: «تقييم التراكم الحيوي للميكروبلاستيك في مخ الإنسان المتوفى». وقد اكتشفتْ الدراسة وجود الميكروبلاستيك في عينات من أنسجة المخ، والكلية، والكبد من الموتى من عام 2016 إلى 2024، كما أفادت بأن تركيز الميكروبلاستيك في تزايد مع الزمن، مما يؤكد تراكمها في هذه الأعضاء.
ودراسة أخرى ستُنشر في مجلة «المواد الخطرة» (Hazardous Materials) في 15 سبتمبر 2024، تحت عنوان: «اكتشاف وتحليل الميكروبلاستيك في نخاع العظم البشري». وهذه الدراسة أكدت وجود جسيمات المخلفات البلاستيكية في أعماق عظام الإنسان، وبالتحديد في نخاع العظام، حيث كان معدل التركيز 51.29 ميكروجراما من البلاستيك لكل جرام من نخاع العظام، وتراوح بين 15.37 إلى 92.05. وهذه الجسيمات البلاستيكية كانت من نوع بولي إيثلين، وبولي ستيرين، وبولي كلوريد الفينل، وبولي بروبلين، وتراوح الحجم بين 20 إلى 100 مايكرومتر.
كما تم اكتشاف الجسيمات الميكروبلاستيكية في أنسجة المشيمة، كالدراسة المنشورة في مايو 2024 في مجلة «علوم السموم» (Toxicological Sciences) تحت عنوان: «تحديد كمية واكتشاف تراكم الميكروبلاستيك في عينات المشيمة البشرية»، حيث تراوح التركيز في 62 عينة من المشيمة بين 6.5 و685 ميكروجراماً من البلاستيك لكل جرام من أنسجة المشيمة، وبمعدل 126.8، والأكثر نوعاً من البلاستيك هو بولي إيثلين وبولي كلوريد الفينل. فهذه الدراسة تثير التساؤلات حول تأثير البلاستيك على الحمل، وعلى الجنين في رحم أمه، وعلى تعقيدات الولادة وصحة الجنين المولود.
أما بالنسبة إلى القلب فقد نُشرت دراسة في 6 مارس 2024 في مجلة «نيو إنجلند الطبية» (New England Journal of Medicine) تحت عنوان: «الميكروبلاستيك والنانوبلاستيك في الأورام وحالات القلب والأوعية الدموية»، حيث شملت العينة 304 من مرضى الشريان السباتي الموجود في طرفي العنق، وتم اكتشاف بولي إيثلين في «البلاك» (plaque)، أو ترسبات اللويحات الدهنية في عينة 150 مريضاً، وبمعدل 21.7 ميكروجرام لكل مليجرام من البلاك. واستنتجتْ الدراسة بأن المرضى الذين اكتُشفتْ المخلفات البلاستيكية في عينة لوحات الشريان السباتي أكثر عرضة للسقوط في أمراض القلب.
والآن وبعد كل هذه الدراسات، هل يشك أحد منا بأن المخلفات البلاستيكية وغير البلاستيكية التي نتخلص منها سترجع إلينا مرة ثانية فتُعرض أمننا الصحي للخطر، وتهددنا بنزول أمراض غريبة ومستعصية على العلاج؟
إن هذه الحالة البيئية الصحية المزمنة التي نعيش فيها الآن من المفروض أن توقظ كافة الجهات المعنية بالصحة والبيئة، فيُعلنون فوراً حالة الطوارئ الصحية العامة لغزو المخلفات البلاستيكية الدقيقة لبيئتنا وكافة أعضاء أجسامنا، والبحث في الأسقام والعلل الجديدة والغريبة التي سنسقط فيها لا محالة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك