موضوع القراءة من الموضوعات المهمة التي تؤرق المفكرين والكتاب في الوطن العربي خاصة في السنوات الأخيرة التي بدأت تنحسر شيئاً فشيئا ًحتى باتت تنتشر في أوساط بعض المثقفين والمتعلمين تعليماً عاليا، وغدت هذه المسألة أكثر وضوحاً مع تطور التكنولوجيا وتقدمها في مجال أجهزة الهواتف الذكية التي سحبت البساط من تحت قدمي الكتاب وباتت هي الملاذ الذي يلجأ إليه الفرد في التعرف على ما يجري من حوله والعالم، ولم يعد للكتاب أي قيمة في حياة الناس ولم يعد الكتاب كما قال عنه المتنبي (وخير جليس في الزمان كتاب) فكل الأخبار والمعلومات يتصفحها من خلال هاتفه الذكي وهي معلومات في الغالب سطحية وغير صادقة.
قديما قيل لأرسطو: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: أسأله كم كتاباً يقرأ وماذا يقرأ. واليوم لو طرحنا مثل هذا السؤال على شريحة من الناس في أوطاننا بالتأكيد ستكون الإجابات صادمة لأن واقعنا يقول إن منسوب القراءة تراجع بنسبة كبيرة جداً وهذا مؤشر خطير؛ لأنه ينعكس سلبا على تطور الأمة وتقدمها وهذا ليس من باب المبالغة في القول لأن القراءة تعد مؤشراً من مؤشرات التنمية، ولأن الشعوب التي لا تقرأ هي الشعوب التي تقع في مؤخرة السلم الحضاري في الوقت الراهن. إن الشواهد عديدة على أهمية القراءة سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجمعي. فعلى الصعيد الشخصي يؤكد المفكرون والكتاب أن القراءة غذاء للعقل، ومتعة للنفس، بها يوسع الفرد معارفه ومداركه، وينمي قدراته ومهاراته. أما على الصعيد الجمعي فأصبحت القراءة اليوم مقياساً لتقدم الأمم ورقيها؛ فالدول المتطورة التي تمسك بتلابيب الأمور وتتحكم في العالم هي تلك الدول التي تعشق شعوبها القراءة، أما الدول التي لا تعي دور القراءة في تثقيف الشعوب ورفع مستوى الوعي لديه؛ فهي التي تقع في الذيل وليس لها وجود على خارطة العالم المتقدم. ولسنا بحاجة إلى تأكيد ذلك فالدول التي امتلكت ناصية العلم هي الآن تتصدر واجهة العالم علمياً وتكنولوجياً واقتصاديا. فالقراءة هي الرافعة للتطور والتقدم في جميع المجالات.
إن أهمية القراءة هي التي دفعت أمير الشعراء إلى التأكيد على أهمية الكتاب والقراءة فقال: أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافياً إلا الكتابا. إن تراثنا العربي يزخر بالأقوال المأثورة التي تؤكد أهمية الكتاب والقراءة فها هو ابن الجوزي يقول: «وأني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز» وسئل البخاري عن دواء للحفظ فقال: إدمان النظر في الكتب.
إن إدمان علمائنا الأوائل على قراءة الكتب والاطلاع هو أحد أسباب تفرد الأمة وتميزها وأسهمت القراءة بصورة فاعلة في إنتاج حضارة سادت الدنيا قرونا فهي التي أسست للعلم بمفهومه الحديث، بعد أن سيطرت الخرافات والدجل والأساطير في وقت لم تتمكن الحضارات السابقة لها من التخلص من الشوائب والأساطير؛ فحضارتنا نجحت في تأسيس فكر علمي يعتمد على العقل والاستنباط الدقيق.
إن أحد أسباب جهلنا وتخلفنا في الوقت الراهن هو: أننا هجرنا القراءة والاطلاع على الكتب وابتعدنا عن التأسي بما فعل سلفنا الصالح الذي كان منكباً على قراءة العلوم الشرعية والدنيوية كافة، ولأنه كذلك استطاع أن يبني عريقة شهد لها المنصفون من الكتاب والمؤرخين الغربيين. يقول آدم متز Adam Mez (1869-1917م): «لا يعرف التاريخ أمة اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها كما فعل المسلمون في عصور نهضتهم وازدهارهم، فقد كان في كل بيت مكتبة».
إن القلب ليحزن اليوم على حال الأمة، عندما نراها في مؤخرة الركب، وتعيش على هامش الحضارة الغربية وتقتات على موائدها وتجلس على دكة المتفرجين مندهشة على ما تنتجه هذه الحضارة من اختراعات وابتكارات من دون أن يكون لنا أي فعل أو دور ولو كان بسيطا في إنتاج ما تقذف به هذه الحضارة على العالم من اختراعات وابتكارات.
إن المطلع على الاحصاءات العالمية في إنتاج الكتب سيكتشف البون الشاسع بين ما تنتجه الدول العربية مجتمعة من الكتب وما تنتجه الولايات المتحدة؛ فالعرب ينتجون 1650 كتاباً سنوياً مقابل 85 ألف كتاب سنوياً تنتجه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. كما تؤكد اليونسكو أن نصيب كل مليون عربي لا يتجاوز 30 كتاباً، مقابل 854 كتاباً لكل مليون أوروبي، هذا يعني أن معدل قراءة الشخص العربي ربع صفحة في السنة مقابل معدل الفرد الأمريكي الذي يصل إلى 11 كتاباً في العام الواحد. ولك عزيزي القارئ أن تدرك الفرق بيننا وبينهم وتعرف السر وراء تقدمهم، والسر وراء تأخرنا عن مجاراتهم والذي يمكن اختزاله في كلمة واحدة وهي «اقرأ» وهي أول كلمة ألقاها جبريل عليه السلام على رسولنا الكريم عندما كلفه الله ليخبر المصطفى بأن الله اختاره ليكون رسولا للأمة، وبهذه الكلمة الساحرة استطاع المسلمون بناء حضارة أساسها الإيمان والعلم.
إن إحياء هذه الأمة ونهضتها من جديد يبدأ من رد الاعتبار للكتاب وهذا يعني اعطاء القراءة جل اهتمامنا، وأن تكون من أولوياتنا بحيث يكون لها دور في حياتنا على الصعيدين الفردي والمجتمعي، ويتجسم ذلك من خلال اهتمام الأسرة أولاً بغرس عادة القراءة لدى الأطفال منذ نعومة أظفارهم ويكون ذلك من مرحلة ما قبل التعليم المدرسي (الروضة) والاستمرار في هذا النهج عبر تشجيع النشأ على القراءة في المراحل التعليمية كافة. ولا داعي لذكر الوسائل التي يمكن استخدامها في تحفيزهم على ذلك لأنها باتت معروفة للجميع. بقي أن نشير ونحن على أعتاب عام دراسي جديد إلى الدور الذي تلعبه المدرسة في مسألة إثارة الدافعية عند الطلاب نحو القراءة وتثبيت عادتها لديهم وهذا الدور ينبغي أن يضطلع به جميع المعلمين وليس مقتصراً على معلمي اللغة العربية دون سواهم كما هو متعارف عليه.
ختاماً أقول: إن أمة اقرأ لا بد أن تعود إلى القراءة؛ لأنها هي السبيل إلى نهضتها وإحيائها من جديد لتأخذ مكانتها بين الأمم.
jbonofal@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك