«...لم أكن أعرف ولم يخبرني أحد، فماذا لي أن أقول أو أفعل؟ قالوا إنهم ببساطة لا يريدون أكثر من 25 ميلًا كمنطقة عازلة. ثم دمروا إمداداتكم للمياه والكهرباء. قصفوا مستشفياتكم ومدارسكم وطرقاتكم.. قالوا هذا هو الطريق للسلام. ثم دمروا بيوتكم وهدموا بقالياتكم. منعوا الصليب الأحمر ووضعوا الأطباء في السجون. قصفوا الأولاد والبنات بالقنابل العنقودية... قالوا إنه الدفاع عن النفس... في أقل من ثلاثة أسابيع قتلوا وجرحوا 40 ألفًا من رجالكم ونسائكم وأطفالكم. لكنني لم أكن أعرف ولم يخبرني أحد، فماذا لي أن أقول أو أفعل؟
وصفوا الدمار الذي يصرخ ألمًا بالأنقاض... ألم تقرأوا منشوراتهم التي يُسقطونها عليكم من الطائرات المقاتلة؟ قالوا لكم ارحلوا فلماذا لم تطيعوا؟ فها هو البحر المتوسط. يمكنكم السير على مياهه والبقاء عليها، ما المشكلة؟ لكنني لم أكن أعرف ولم يخبرني أحد، فماذا لي أن أقول أو أفعل؟... أعرف أن أموالي هي التي دفعت ثمن القنابل والطائرات والدبابات التي استخدموها لذبح عائلاتكم. لكنني لست شيطانة وشعب بلدي ليس بهذا السوء. فما الذي تتوقعه ممن يدفعون الضرائب ويشاهدون التلفزيون الأمريكي؟ هلا أدركتم ما أقصد. أعتذر. أنا فعلًا أعتذر بشدة.
تلك الكلمات لم تُكتب بالأمس ولا تتحدث عن غزة، وإنما هي بعض فقرات قصيدة بديعة كتبتها الكاتبة والشاعرة الأمريكية السوداء جوون جوردون أثناء غزو لبنان عام 1982. عنوان القصيدة «أعتذر لكل الذين في لبنان». وجوردون لم تسمها «اعتذار لكل اللبنانيين» لأنها كانت تقصد أيضًا الفلسطينيين الذين استشهدوا في مذبحة صابرا وشاتيلا وعائلاتهم. والقصيدة بما احتوته من تفاصيل مؤلمة تذكرنا بأن الجرائم التي تُرتكب في غزة اليوم ليست جديدة على إسرائيل وإنما هي حلقة في سلسلة طويلة ممتدة تتشابه في تفاصيلها إلى حد التطابق، بدءًا من إزهاق أرواح المدنيين، ومرورًا باستخدام الأسلحة المحرمة دوليًا وسجن الأطباء، ووصولا للحرمان من أبسط مقومات الحياة.
والحقيقة أن تلك القصيدة لم تكن الأولى ولا الأخيرة التي كتبتها جون جوردون في دعم فلسطين.
..فهي أيضًا صاحبة العبارة الشهيرة ذات الدلالة: «وُلدت امرأة سوداء، والآن صرت فلسطينية». وجوردون دفعت ثمنًا غاليا نظير موقفها. فحين هُوجمت لم تتراجع، بل نشرت مقالًا كتبت فيه: «أتحمل المسؤولية عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية، لأنني أمريكية، والأموال الأمريكية هي التي جعلت تلك الفظائع ممكنة. أتحمل المسؤولية عن صابرا وشاتيلا، لأن الواضح أنني لم أفعل ما يكفي لوقف مثل تلك المذابح والمحارق حول العالم. أعلن مسؤوليتي وأعمل جاهدة من أجل يوم أستطيع فيه أن أنقذ حياة ولو آدمي واحد». ازداد الهجوم عليها. تلقت تهديدات بالقتل. اتهموها بالعداء للسامية. حرموها من فرص للكتابة والنشر. حتى الحركة النسوية، بما فيها الحركة النسوية السوداء، همشتها وتجاهلتها. ولكنها لم تتراجع أبدًا عن موقفها.
تذكرت اعتذار جوردون وأنا أشاهد وزير خارجية بلادها يقول إن «الطريق الوحيد والأسرع والأكثر فاعلية لتخفيف معاناة الفلسطينيين» هو أن توافق حماس على اتفاق وقف إطلاق النار. الفارق شاسع بين الأمريكية صاحبة الضمير الحي، ووزير خارجية بلادها الذي يضع شروطًا لا بد من تنفيذها قبل تخفيف معاناة البشر! فهو بذلك التصريح ارتكب جريمة دولية. وكأن تلك الجريمة ليست كافية.
فقد صرح الوزير في المؤتمر الصحفي نفسه بأن إسرائيل وافقت على الاتفاق، وهو ما أكدت مصادر أمريكية وإسرائيلية أنه كذب بواح!
أمامنا «أمريكتان»، إحداهما أكثر عدلًا وإنصافًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك