منذ حركة التنوير بالقرن السابع عشر، سيطر الإنسان الغربي -بالعلم المادي الملموس- على الطبيعة، ما أفاد البشرية كثيرًا، ولكن هل هو الآن على شفا مرحلة جديدة، يرتد فيها إلى «اللا ملموس»؟ الاستمرار في إنتاج السيارة والطعام، وغير ذلك مما يمكن «لمسه»، ولكن التركيز على الذهن البشرى «اللا ملموس»، كمُنتج ومُستهلك وسلعة في نفس الوقت. التركيز على الذهن البشرى صار ورقة رابحة منذ ثورة تشومسكى الذهنية بمنتصف القرن الماضي، والتي كشفت الكثير من أسرار المخ البشرى، لدرجة اختراع «المخ» (الذكاء) الاصطناعي. عرف الغرب الآن كيف يمكن كسب اهتمام الإنسان، وتوجيه رغباته، وتوظيفها لتحقيق مصالحه، من دون احتلال لأرض، أو اعتداء على أوطان. بمعنى ما، عالم اليوم هو عالم ما بعد الاستعمار وما بعد التصنيع أيضًا.
الشعوب مُستعمرة اليوم عن بُعد، بواسطة الموبايل، الذي نُدخل فيه جميعًا، طوعًا، معلوماتنا، لتتجمع في شكل الـ«بج داتا» (المعلومات الضخمة)، ذهب، وبترول، وثروة عصرنا الحالي. تلك الثروة المتركزة حاليًا في أيدي شركات الخدمات «اللا ملموسة»، مثل جوجل وأمازون. قطاع الخدمات يشكل اليوم 77% من الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية، في حين تسهم الصناعة بـ18%، والزراعة بـ1% فقط.
كان الذهن البشرى سابقًا مَحَلِّي الفكر والقيم والأخلاق. لكل شعب أفكاره وقيمه، وفق ظروفه البيئية والتاريخية. وكان حاكم كل شعب حريصًا على صون القيم المحلية، كوسيلة لتجانس المجتمع، وسهولة حُكمه، فرأينا الحاكم الإله في مصر القديمة، وملكة بريطانيا رئيسة للكنيسة. أما اليوم، حيث صار العالم قرية واحدة، فمَن الحاكم، وبأي قِيَمٍ سيحكم؟ السلاح والثروة وحدهما غير كافيين. لابد من «اللا ملموس». الأسطورة الجديدة التي سيجتمع عليها البشر. لا لفكر المؤامرة. ليس هناك غالبًا من يجلس على كرسي مريح ويرسم الخطط لتغيير العالم. العالم معقد، متشابك، والمصالح متضاربة متصارعة. لا أحد يرى المستقبل. ولكن هذا لا يعني أن الجميع يقفون مكتوفي الأيدي وينتظرون المفاجآت.
هناك «الجي 7» و«الجي 20»، ومؤتمر دافوس، وكثير من المنظمات، و«لوبى» أصحاب الثروات، والشركات العابرة للقارات. نعم العالم أكثر تعقيدًا من كل ذلك، وهناك قوى كثيرة متصارعة، طبيعية وبشرية، سيَنتج عن صراعاتها مستقبل يصعب التنبؤ به. ولكن لا يستطيع الإنسان تجاهل ظواهر واضحة جلية، تنتشر بسرعة وزخم مدهش في العالم كله، من دون أن يتساءل: مَن، ولماذا؟ ظاهرة «المثلية» (LGBT....) على سبيل المثال.
أفلام نتفليكس وصلت العالم بأكمله، وكثير منا يعرف اتجاهات أفلامها. ألوان الطيف، رمز الحركة، تقع أعيننا عليها ليل نهار. أعلام «المثليين» تعلو المباني الحكومية، ومداخل مدارس الأطفال. وسائل الإعلام تحتفل بالمثلية، والقوانين تُسَن لحمايتها. والنتائج مبهرة: فقط ما بين 1988 و1998 انخفضت نسبة المعارضين لأفكار المثليين في الولايات المتحدة الامريكية من 75% إلى 55%. أما اليوم فصار الاعتراف بأفكار المثليين علامة على التحضر في الغرب، وأصبح نقدها من المحرمات الاجتماعية، وربما قريبًا، القانونية.
في عام 2003 صدر كتاب بعنوان «أجندة المثلية الجنسية: فَضْح التهديد الرئيسي للحرية الدينية»، يرى مؤلفاه، آلان سيرز، وكريج أوستن، أن حركة المثليين التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي تهدف إلى التفوق على كل الجماعات والحركات الأخرى، خاصة المؤسسات الدينية. من جهة أخرى، يذكر، مصري الأصل، د. نبيل سليمان، أستاذ الأعصاب والطب النفسي بجامعة سان فرنسيسكو، أن أجندة المثليين لا تذكر كلمة واحدة عن البوذية، أو الكنفوشيوسية مثلاً، وإنما تُركز فقط على الديانات التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وبذلك تتماهى مع الحركة الإبراهيمية.
حركة المثليين اليوم صارت حركة هوية، ودين، واقتصاد، وسياسة. حتى دولة مثل جورجيا تموج الآن بالمظاهرات، احتجاجًا على عزم البرلمان إصدار قوانين لمنع المثلية، ما أصبح رمزًا للاتجاه السياسي والثقافي في اتجاه روسيا والصين، وليس غربًا كما يفضل المتظاهرون.
يقول البعض: لماذا القلق؟ أليست المثلية قديمة قدم التاريخ، وكذلك النظم والقيم والأيديولوجيات التي قضى كلٌّ منها على ما سبقه من قناعات كانت يومًا مؤكدة؟ أليس تاريخ البشر هو تاريخ استعمار العقول؟
ربما. ولكن الجديد اليوم هو شمول المكان وتسارع الزمان. حركة مثل «المثليين» هدفها ليس أمريكا، وإنما العالم بأسره. وتحقيق نتائجها يسير بسرعة البرق، بفضل ظهيريها: رأس المال، وتكنولوجيا صناعة الأذهان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك