أشرت في مقالات سابقة إلى تأثير الصراعات الإقليمية على قضية أمن الطاقة من بينها تهديد الممرات البحرية لنقل الطاقة التي امتدت خلال كافة الصراعات التي شهدتها المنطقة ومن بينها الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات ، مروراً بالغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990 وانتهاءً بما يحدث الآن في باب المندب والبحر الأحمر، وجميعها أحداث أثرت بشكل بالغ على إمدادات الطاقة العالمية وكانت سبباً في تأسيس تحالفات عسكرية استهدفت الحفاظ على أمن الطاقة وطرق مرورها، ومع أهمية ذلك، فإن لأمن الطاقة أبعادا أخرى من بينها كيفية حماية مناطق الإنتاج ذاتها من الصراعات سواء الداخلية أو الإقليمية، حيث طالت تلك الأخيرة أيضاً منشآت النفط وكان المثال الأبرز على ذلك استهداف المنشآت النفطية بشركة أرامكو السعودية بطائرات بدون طيار «درونز»، والمنشآت التابعة أدنوك الإماراتية، بما يعنيه ذلك أن الحفاظ على أمن الطاقة ذو جوانب متعددة، ولكن أهمها كيفية الحفاظ على مناطق الإنتاج ذاتها.
ولعل الحادث المستجد في هذا السياق هو إغلاق حقول النفط الليبية وتأثير ذلك على عائد البلاد من ذلك المورد بالإضافة إلى العمالة التي تعمل في تلك الحقول، ولا تكمن مخاطر تهديد أمن الطاقة في التأثير على إنتاج الحقول في مناطق الصراعات فحسب بل أيضاً في تعرض المنشآت النفطية لهجمات إرهابية، وكان المثال الأبرز على ذلك محاصرة مسلحين لحقل غاز أميناس في الجزائر في يناير عام 2013 وكان به 800 عامل من الجنسيات المختلفة، وقد تمكن الجيش الجزائري من إنهاء حصار الحقل من خلال التدخل بعد ثلاثة أيام وقتل فيه 40 عاملاً و39 مسلحاً.
وواقع الأمر أن قضية أمن الطاقة كانت مثار اهتمام لاستراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى تجاه منطقة الشرق الأوسط التي تتصدرها تلك الدول وكذلك المنظمات الدفاعية مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ففي استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة عام 2022 تضمنت أن «الولايات المتحدة لن تتهاون مع تهديد حرية الملاحة في المضائق والمعابر الاستراتيجية كمضيق هرمز وباب المندب»، ورغم أهمية ذلك لم تشر تلك الاستراتيجية صراحة إلى الآليات المحددة لذلك، ولكن النص على تلك القضية يعني أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة- بغض النظر عما إذا كانت من الجمهوريين أم من الديمقراطيين- لا تزال تضع قضية أمن الطاقة في الشرق الأوسط والخليج العربي ضمن أولوياتها بل إنها لا تزال من الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها من جانب أي طرف إقليمي، وهو ما يفسر تأسيس تلك التحالفات العسكرية، ولكن على العكس من ذلك لم تكن قضية أمن الطاقة مثار اهتمام في المفهوم الاستراتيجي الثامن لحلف الناتو الذي صدر في عام 2022 على الرغم من احتدام تهديدات الأمن البحري تزامناً مع صدور ذلك المفهوم وتصريح ينس ستولتنبرغ الأمين العام للحلف آنذاك بأن أمن الطاقة في الشرق الأوسط يواجه تهديدات عديدة محذراً دولاً بعينها من تهديد أمن الطاقة، ولا شك أن تلك القضية تعد محل اهتمام كافة القوى العالمية الأخرى التي لها مصالح جوهرية في المنطقة حتى لو لم تعلن خططا محددة لحماية أمن الطاقة.
ومع أهمية الأبعاد الإقليمية والدولية لقضية أمن الطاقة التي -كانت- ولاتزال تمثل محط اهتمام كافة الدول، فإن تلك القضية يجب أن تحظى بالأولوية ضمن الأمن الوطني للدول بالنظر لاستمرار الدور المحوري للنفط في الدخل القومي وتقدم الحالة الليبية نموذجاً على ذلك، حيث يتم تهديد أكثر من مليون برميل من صادرات النفط الليبية، وكان لذلك تداعيات عالمية منها ارتفاع أسعار النفط الخام بنسبة 3%. ويعيد ذلك إلى الأذهان تداعيات الأزمة الليبية عام 2011 عندما ناهزت أسعار النفط في الأسواق العالمية 112 دولاراً للبرميل وكان ذلك سبباً من أسباب تدخل حلف شمال الأطلسي «الناتو» في تلك الأزمة لتأثيرها على مصالح دول الحلف الجوهرية.
وفي تقديري أن هناك أبعادا ثلاثة لأمن الطاقة، فالأمر وإن كان مرتبطاً بالصراعات الإقليمية بيد أن تأمين المنشآت النفطية الوطنية في كل دولة أمر استراتيجي في ظل عاملين، الأول: ما تراه الجماعات دون الدول في المنشآت النفطية وحقول النفط هدفاً سهلاً يمكن استهدافه من خلال التوظيف السيئ للتكنولوجيا والأمثلة على ذلك عديدة، والثاني: امتداد بعض خطوط نقل النفط مسافات طويلة في أماكن صحراوية مكشوفة، مما يجعلها عرضة للاستهداف، بما يعنيه ذلك من أنه يجب في الوقت ذاته توظيف التكنولوجيا لحماية تلك المنشآت بل والاهتمام بتمرينات محاكاة ذات صلة بإدارة أزمة مواجهة تهديد تلك المنشآت سواء من خلال هجوم بالوسائل التكنولوجية عسكرية أم سيبرانية، أو مواجهة هجوم إرهابي على تلك المنشآت. من ناحية ثانية، فإن احتدام الأزمات الإقليمية على نحو غير مسبوق كان له تأثير مباشر على أمن الطاقة سواء مناطق الإنتاج أو طرق النقل البحرية على نحو خاص، صحيح أن هناك تنسيق وتعاون ومن ذلك بين دول الخليج العربي، ولكن هناك متطلبات أخرى تتجاوز حماية طرق النقل ومنها كيفية التعامل مع حالة تلوث بحري واسع النطاق جراء غرق ناقلات النفط وهو تحدي أصبح ماثلاً مع توتر الأوضاع في باب المندب والبحر الأحمر، من ناحية ثالثة دائماً ما تثار تساؤلات حول الأدوار الدولية لحماية أمن الطاقة وخاصة خلال الأزمات من خلال قيادة تحالفات والتي نجحت إلى حد ما في الحفاظ على أمن الطاقة ولكن لاتزال هناك متطلبات ثلاثة بشأن أدوار القوى الدولية أولها وأهمها نزع فتيل الصراعات الإقليمية وإيجاد حلول للأزمات الإقليمية والتي تتيح الفرص للجماعات دون الدول لتوظيف ورقة أمن الطاقة في تلك الصراعات، وثانيها: أن تكون قضية أمن الطاقة في منطقة الشرق الأوسط واضحة ضمن استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى بما يضمن وجود إجراءات استباقية وخطط مسبقة للتعامل مع أي تهديدات ولا يكون الأمر التعامل مع كل حالة على حدة، وثالثها: دعم الدول الكبرى قدرات الدول الشريكة سواء حماية المنشآت النفطية أو تدريبات الأمن البحري لحماية ناقلات النفط.
ومجمل ما سبق، أن تهديد أمن الطاقة يرتبط على نحو وثيق بالصراعات سواء داخل دول الجوار أو في السياق الإقليمي ذاته وهو نتيجة طبيعية لاحتدام تلك الصراعات، ونظراً إلى أن ذلك المفهوم قضية ذات أبعاد مختلفة، فإن التعاون الوطني والإقليمي والعالمي يعد المرتكز الأساسي للحفاظ على أمن الطاقة سواء المنشآت النفطية أو طرق نقل النفط بالإضافة لحماية ناقلات النفط من خلال خطط واستراتيجيات شاملة لكون النفط سيظل المصدر الرئيسي للدخل القومي للعديد من الدول على الأقل في المدى المنظور.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك