ربما نعتقد أنه فجأة ومن غير مقدمات تنفجر الشعوب الغربية ويتزايد بينها العداء للمهاجرين، وتتبنى الجماهير الغربية خطابات التطرف المبنية على العرق والدين وكراهية الآخر، وبالتالي تتزايد مخاوف الأقلية وترفض الذوبان والاندماج في المجتمعات لذلك تتمايز وتنطوي على نفسها وتنكمش. حينئذ يتزايد العنف وتتزايد الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد حتى تصل في بعض المراحل إلى استعمال الأيدي والأسلحة، ليس ذلك فحسب، وإنما هذه المفاهيم هي التي أدت إلى انتشار الفاشية والنازية والأحقاد والكراهيات التي تسود العالم هذه الفترة التاريخية.
في هذا الإطار يأتي مفهوم التعددية الثقافية لمعالجة مثل هذه الظواهر، فما المقصود بالتعددية الثقافية؟ وما النقيض لهذا المفهوم؟ وهل تؤمن الشعوب الغربية بهذا المصطلح، وتعيشها وتتعايش معها، أم مجرد أنها حبر على ورق؟ وهل يوجد هذا المصطلح في العالم العربي والإسلامي؟
يشير اندرو هيود في كتابه (الأيدولوجيات السياسية) إلى أن «مفهوم التعددية الثقافية استخدم أول مرة في كندا عام 1965، باعتباره اقترابا لمعالجة التنوع الثقافي، وفى عام 1971 تم تبنيه رسميا كسياسة عامة في كندا، ما شكل أساسًا لتمرير قانون التعددية الثقافية عام 1988، كما أعلنت استراليا نفسها رسميا متعددة الثقافات منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، لكن المفهوم لم يبرز في الأدبيات السياسية إلا في تسعينيات القرن المنصرم».
وفي عام 2001 تم الإعلان العالمي بشأن (التنوع الثقافي) الذي اعتمدته اليونسكو، هو صك قانوني يعترف بالتنوع الثقافي باعتباره (تراثًا مشتركًا للإنسانية)، وأن يكون واجبًا ملموسة وأخلاقيًا لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان.
وتجد بعض الدراسات أن تعريفات التعددية الثقافية تختلف باختلاف نوعية التخصص الذي نتحدث فيه، فمن ناحية الانثروبولوجيا يستخدم مفهوم التعددية الثقافية للدلالة على جماعات تختلف أنماط الحياة لدى كل منها اختلافًا شاسعًا عن غيرها ولكنهم يعيشون في مجتمع واحد. أما في العلوم السياسية فتستعمل للتعبير عن جماعات ذات فروقات ومميزات ملحوظة تعيش في مناطق جغرافية محددة، وتشكل هذه المميزات الملحوظة قاعدة لقوتها السياسية.
وفى تعريف علم الاجتماع فهي رغبة بعض الجماعات في المحافظة على أوجه الشبه فيما بين أفرادها لاعتقادهم أن الصفات والقيم والمعتقدات المشتركة تشكل مصدر شعور الأفراد بالفخر والثقة بالنفس والصحة العقلية والتماسك.
ويمكن أن يُعرَّفُ التعدد الثقافي أو التنوع الثقافي على أنّه عملية تعايش عدد مختلف من الثقافات مع بعضها البعض في المجتمع ذاته أو في محيط جغرافي واحد، بطريقة تجعل كلّ طرفٍ يحترم ثقافة الآخر ويقدّرها. ويرجع هذا التقدير والاحترام إلى تعريف الثقافة نفسها الذي يتفق العاملون في حقله على أنه مجموعة العادات والتقاليد والممارسات المجتمعية، بما فيها تفاصيل استخدام اللغة التي يتحلى بها أفراد مجتمع معين، لتصبح بمثابة سمات مميِّزَةٍ لهم، باعتبار الإنسان أساسًا للتنمية المستدامة التي تعمل عليها الدول والحكومات جميعًا.
وتكمن أهمية التعدد الثقافي في احتياج الناس إلى العيش معًا وفق مفاهيم متقدمة تجعل الحياة أفضل وأرقى، وهي الممارسات التي تُحِلُّ السلام بدلًا من الحروب، أي قمة ما يسعى إليه المجتمع الإنساني، ومن هنا نتمكّن من قراءة التعدد الثقافي وأهمية ممارسته فعلاً وتطبيقًا، عبر الاعتراف بتغير أشكال التعبير الإنساني في حياة كلّ فردٍ على حدة، مع التسليم بأن الحياة مشاركةٌ تُعنى بالممارسة الحياتية وثقافة الفرد.
وتهتم التعددية الثقافية بالتنوع في إطار الوحدة، وتستلزم التمسك الإيجابي بالتنوع بين الجماعات القائم على حق الجماعات الثقافية المختلفة في الاعتراف والاحترام، وفى هذا الإطار تقر التعددية الثقافية بأهمية المعتقدات والقيم وطرق الحياة في خلق الإحساس بالقيمة الذاتية للفرد والجماعة على حد سواء، وهكذا تستحق الثقافات المتمايزة أن تتمتع بالحماية والدعم، مع تجنب الهيمنة أو الانصهار ضمن ثقافة سائدة معينة، وهي تضفي الشرعية على الانتماء الثقافي المختلف وتمنح الاعتراف بالخصائص الثقافية المتمايزة.
ومن الجدير بالذكر أن فكرة ومفهوم التعددية الثقافية بدأت في الدول الغربية الناطقة باللغة الإنجليزية كسياسة وطنية رسمية في كندا في عام 1971، تليها أستراليا في عام 1973، كما اعتمدت بسرعة كسياسة رسمية في معظم أعضاء دول الاتحاد الأوروبي.
إلا أن العديد من تلك الدول ألغت في مراكزها الحكومية تلك السياسة الوطنية وعادت إلى ثقافتها الرسمية الأحادية الثقافة، فأصبحت سياسة ومفهوم (التعددية الثقافية) موضوع النقاش في المملكة المتحدة، مثلاً، بسبب الأدلة المتوافرة على بداية التمييز العنصري والقلق بشأن الإرهاب الداخلي كما تدعي تلك الحكومات. وقد أعرب عدد من رؤساء الدول عن الشكوك حول نجاح سياسة تعدد الثقافات، منهم: رئيس وزراء المملكة المتحدة (ديفيد كاميرون) و(المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) و(رئيس وزراء أستراليا السابق جون هوارد) و(رئيس وزراء إسبانيا السابق خوسيه ماريا أثنار) و(الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي) الذي قد أعرب عن المخاوف بشأن فعالية سياساتها متعددة الثقافات لدمج المهاجرين.
عندئذ انبثقت فكرة ومصطلح جديد وفي الغرب ذاته وهو (الثقافة الأحادية أو الاندماج الثقافي)، فماذا يعني ذلك؟
دعونا نأخذ مثالين؛ وهما:
أولاً: في ألمانيا، قالت أنجيلا ميركل في لقاء الأعضاء الشباب في أكتوبر عام 2010، في حزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ (الحزب الديمقراطي المسيحي) في بوتسدام قرب برلين، الذي يحاول بناء مجتمع متعدد الثقافات في ألمانيا قد «فشل تمامًا» وذلك ابتداء من: «إن مفهوم التعايش جنبًا إلى جنب ونحن سعداء بهذا التعايش لا يعمل»، وتابعت القول بأنه «يجب دمج وتكييف المهاجرين مع الثقافة والقيم في ألمانيا». وقد أضاف هذا القول على الجدل المتنامي داخل ألمانيا عن مستويات الهجرة، وأثرها على ألمانيا ودرجة اندماج المهاجرين المسلمين – تحديدًا – في المجتمع الألماني. والجماعة الأحمدية المسلمة من ألمانيا هي الجماعة الإسلامية الأولى التي مُنحت (شركة تحت وضع القانون العام)، ووضع المجتمع على قدم المساواة مع الكنائس المسيحية الكبرى والجاليات اليهودية في ألمانيا.
ثانيًا: في هولندا، بدأت التعددية الثقافية في هولندا مع زيادات كبيرة في الهجرة في منتصف الخمسينيات والستينيات. ونتيجة لذلك، تم اعتماد سياسة وطنية رسمية من التعددية الثقافية في بداية الثمانينات، اُعطت هذه السياسة بعد ذلك المزيد من سياسات الاستيعاب وذلك في التسعينيات. بعد قتل بيم فورتين (في عام 2002) وثيو فان جوخ (في عام 2004) كان هناك زيادة في النقاش السياسي حول دور التعددية الثقافية في هولندا. وأدلى الحاخام الأكبر للعبرية بأن التجمعات في الكومنولث صنعت التمييز بين التسامح الثقافي، مشيرًا إلى أن الشعب الهولندي (متسامح) بدلاً من أنه مجتمع متعدد الثقافات، حيث قال مجلس الوزراء الأول إن هولندا تبتعد عن التعددية الثقافية: «الثقافة الهولندية وقيمها وأعرافها يجب أن تكون مهيمنة»، وذلك حسبما قال الوزير دونر يونيو عام 2011.
وهذا يعني بكل بساطة أن من يريد أن يهاجر إلى الغرب فعليه أن يترك قيمه ودينه وفكره وثقافته في بلاده الأم، ثم يهاجر ليندمج وينصهر مع هذه المجتمعات ويأخذ من فكرها وقيمها وثقافتها ودينها، وكل شيء من غير استثناء، فإن كنت تريد أن تربي أطفالك على قيمك في دول الغرب فيمكن أن يعزل ابناؤك عنك لتقوم الدولة بتربيتهم حسبما تراه مناسبًا لها، وليس لك. وفي المقابل أنت ليس لك الحق في الاعتراض أو حتى التفكير في الاعتراض، على الرغم من أنها دول تدعي الديمقراطية، عجبي.
وبهذه العقلية الجماعية شهدنا في الآونة الأخيرة الكثير من حوادث العنف ضد الأقليات في المجتمعات الغربية، وحوادث حرق القرآن الكريم، ونزع الحجاب عن العديد من نساء المسلمين وهم يسيرون في الشارع وما إلى ذلك، فهل هذه المجتمعات تتقبل التعددية الثقافية، أم أنها تريد أن تفرض ثقافتها وفكرها على الآخر؟
حسنا، يبقى السؤال الأخير، ماذا يحدث في الدول العربية، هل هناك تنوع ثقافي؟ لماذا لم يذكر في الفكر الإسلامي مصطلح (التعدد الثقافي)، هذه الموضوعات سنخصص لها مقالا آخر إن شاء الله.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك