كان الانسحاب المفاجئ للرئيس «جو بايدن» من السباق الرئاسي بمثابة تحول دراماتيكي في الساحة السياسية الأمريكية، وهو ما أعطى الفرصة لنائبة الرئيس «كامالا هاريس» لتكون مرشحة الحزب للرئاسة. بينما تسعى هاريس لجذب الناخبين والتفوق على الرئيس الجمهوري السابق «دونالد ترامب»، تظل السياسة الخارجية – وخصوصًا تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة – واحدة من القضايا الشائكة التي لم يتم تناولها بوضوح في حملتها. ولا شك أن هناك تأثيرا واضحا للحزب الديمقراطي على موقف هاريس من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وكيف أن السياسات والانتقادات الحالية قد تؤثر على مستقبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
عقد الحزب الديمقراطي مؤتمره الوطني بين 19 و22 أغسطس 2024 في شيكاغو؛ حيث تم ترشيح نائبة الرئيس «كامالا هاريس» بشكل رسمي. وتميز المؤتمر بخطاب للرئيس الأسبق «باراك أوباما» وقرينته «ميشيل أوباما»، بينما خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع المدينة للتعبير عن غضبهم من سياسة إدارة بايدن تجاه العدوان على غزة ودعمها لإسرائيل.
ورغم الانتقادات العديدة، لم يقدم المؤتمر تفاصيل كافية حول سياسة «هاريس» الخارجية، خاصة فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط. وقد أشار العديد من المراقبين إلى أن نهج هاريس قد لا يختلف كثيرًا عن سياسات بايدن، مما يثير تساؤلات حول كيفية تعاملها مع النزاع في غزة إذا تم انتخابها رئيسًا للولايات المتحدة.
وقد أشار «أراش عزيزي» محاضر في جامعة كليمسون بولاية ساوث كارولينا وكاتب في مجلة «ذي أتلانتيك»، إلى أن سياسة «كامالا هاريس» تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تظل غير واضحة. ولفت الانتباه إلى أنها لم تقدم تفاصيل واضحة حول كيفية تعاملها مع الصراع إذا ما فازت بالرئاسة. وقد وصف عزيزي تصريحات هاريس حول السياسة الخارجية بالـ«ضبابية»، مما يجعل من الصعب تحديد توجهاتها الفعلية. وأوضح كذلك أن مواقفها تتسم بالحذر الشديد؛ حيث تجنبت تقديم مقترحات جديدة، أو نقدا صريحا لإسرائيل في خطابها العام، مما قد يعكس ترددها في مواجهة الضغوط السياسية الداخلية والخارجية.
وانتقد «إدوارد لوس» من صحيفة «فاينانشال تايمز» صمت المسؤولين الديمقراطيين، بمن في ذلك هاريس، بشأن مذابح غزة. ووصف «لوس» هذا الصمت بأنه «الخيار الأكثر حكمة» سياسيا خلال الانتخابات، مشيرًا إلى أنه قد يكون مدفوعًا بخوف من تفاقم الانقسامات الحزبية، وتقديم نقطة ضعف للحملة الديمقراطية. واعتبر أن تجنب ذكر «غزة» في التصريحات العامة يعكس التردد في التعامل مع موضوع حساس قد يؤثر على تأييد الناخبين.
ورغم أن مؤتمر الحزب الديمقراطي قد أظهر ترشيح هاريس كخيار بارز، فإن غياب التفاصيل حول سياساتها الخارجية قد يثير القلق بين الناخبين الذين يتطلعون إلى تغيير ملموس في السياسة الأمريكية. وبينما تستمر الحملة في محاولة الحفاظ على الوحدة والتوازن، تبقى التساؤلات حول كيفية استجابة هاريس لأزمات الشرق الأوسط كجزء من النقاش الانتخابي الحيوي. ومع ذلك، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت ستنجح في التميز عن سياسات بايدن وتلبية توقعات ناخبيها المتزايدة في هذا الصدد.
يأتي هذا الغموض في سياق تاريخي؛ حيث يواجه الحزب الديمقراطي شبح الانقسامات الحادة التي عانى منها في مؤتمر 1968، والذي شهد احتجاجات عنيفة وأدى إلى خسارة الحزب في الانتخابات أمام الجمهوري «ريتشارد نيكسون». ومع ذلك، فإن ترشيح هاريس بشكل سريع أسهم في تجنب تكرار تلك الفوضى.
وفيما يخص وثيقة برنامج الحزب الديمقراطي لعام 2024، فهي تعكس بشكل رئيسي إنجازات بايدن، مع تجاهل نسبي للسياسات الخارجية. وأوضح «مات دوس» نائب الرئيس التنفيذي لمركز السياسة الدولية ومقره واشنطن، أن توقيت كتابة وثيقة البرنامج الديمقراطي جعل من الصعب إعادة صياغتها لتتماشى مع رؤية هاريس. وقال «دوس» إنه على الرغم من الصعوبات العملية في تحديث الوثيقة بعد ترشيح هاريس، فإن ذلك كان ضروريًا لعرض موقفها بوضوح. وأكد أهمية أن تعبر هاريس وفريقها عن كيفية تعاطيهم مع السياسة الخارجية بطريقة تتجاوز نهج بايدن وتقديم رؤية جديدة.
فعلى الرغم من التصريحات السابقة لهاريس بشأن الدمار الناتج عن الحرب، فقد تجنبت بشكل ملحوظ توجيه انتقادات مباشرة لإسرائيل، مكررة دفاع الإدارة المعتاد عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وقد لوحظ أن حملة هاريس لم تتناول بوضوح أي اقتراحات ملموسة لتغيير السياسة الحالية.
ولعل أحد الأسباب وراء الغموض في سياستها قد يكون محاولة تجنب الانقسامات الحادة داخل الحزب، والحفاظ على الوحدة السياسية قبيل الانتخابات. ومع ذلك، قد يكون لهذه الاستراتيجية تبعات سلبية، حيث أن عدم تقديم مواقف واضحة قد يستمر في إضعاف دعمها بين الناخبين الذين يرغبون في رؤية تغيير حقيقي في السياسة الأمريكية.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية مستشاري هاريس، مثل «فيليب جوردون»، الذي كان له دور بارز في السياسة الخارجية خلال فترة أوباما؛ حيث يمكن أن يكون لهم تأثير كبير على شكل سياساتها إذا فازت بالرئاسة. وعلى الرغم من أنها لم تقدم بعد رؤى جديدة وواضحة، فإن مواقف مستشاريها قد تكشف عن توجهاتها المستقبلية.
فقد أكد «برايان كاتوليس، بنجامين فريدمان، وسيدني تايلور» من معهد الشرق الأوسط (MEI) ، أن هاريس كانت أكثر وضوحًا في انتقادها للدمار الناجم عن الحرب في غزة وتعاطفها مع معاناة المدنيين الفلسطينيين مقارنة بإدارة بايدن. وأوضحوا أنها تأمل في اتباع نهج مختلف لإنهاء النزاع إذا ما تم انتخابها. ومع ذلك، هذا النمط من التصريحات يعكس محاولتها الحفاظ على التوازن بين انتقادات اليسار وتأييد موقف الوسط في الحزب.
ومع قرب انعقاد الانتخابات الرئاسية، يظل غموض سياسة «كامالا هاريس» تجاه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مسألة مهمة تؤثر على دعم الناخبين. فبينما تسعى هاريس للحفاظ على وحدة الحزب والتوازن السياسي، يتعين عليها أن تعالج بفعالية هذه القضايا الشائكة لتفادي تأثيرها السلبي على حملتها الانتخابية. مع استمرار الحرب في غزة وعدم تحقيق تقدم دبلوماسي، ستبقى سياسة هاريس تجاه هذا النزاع تحت المجهر، وستكون محط أنظار الناخبين والمراقبين على حد سواء.
وفي ظل التوترات المتزايدة والصراع المستمر في الشرق الأوسط، يُعَدُّ المؤتمر الوطني الديمقراطي لعام 2024 نقطة محورية لفهم كيفية تعامل «كامالا هاريس» مع السياسة الخارجية إذا ما فازت في الانتخابات الرئاسية المقبلة. على الرغم من أن ترشيحها جاء في وقت حاسم بعد انسحاب بايدن، إلا أنه من الصعب على الناخبين تحديد موقفها الفعلي.
وفي هذا السياق، تتباين الآراء بين الخبراء والأكاديميين حول مدى استعداد هاريس لتبني سياسة خارجية أكثر تمايزًا مقارنة بسابقتها. فقد أشار إلى أن هذا التردد قد يعكس ضعفًا في القيادة أو افتقارًا لرؤية استراتيجية واضحة. في نهاية المطاف، تبقى أسئلة كبيرة حول كيفية تعامل هاريس مع الصراعات العالمية وتحديات السياسة الخارجية، خاصة في ظل الأزمات الإنسانية التي تعصف بالمنطقة.
على العموم، مع اقتراب موعد الانتخابات، تظل سياسة هاريس تجاه الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في قلب النقاش العام. إذا أرادت أن تميز نفسها بشكل فعّال عن بايدن وتلبية تطلعات الناخبين الذين يبحثون عن تغيير ملموس، فإنها بحاجة إلى تقديم رؤية واضحة وقوية تتجاوز مجرد تصريحات عامة. بينما تستمر الصراعات في تشكيل المشهد العالمي، سيكون من الضروري أن تسعى إلى تحقيق توازن بين الأهداف الإنسانية والاعتبارات السياسية، لتثبت قدرتها على قيادة البلاد نحو سياسة خارجية أكثر تماسكًا وشمولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك