إن الحديث عن علم إدارة الأزمات وتصنيفها وكذلك مفهوم الاستراتيجية وأبعادها المختلفة والتحليل الواقعي للعلاقات الدولية وكذلك الأمن الإقليمي يرتبط على نحو وثيق بالإرث المعرفي الذي تركه لنا الأستاذ الدكتور مصطفى علوي سيف أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة الوكيل السابق للكلية وأستاذي في مرحلة البكالوريوس ومشرفي في رسالتي الماجستير والدكتوراه الذي انتقل إلى جوار ربه في فجر الخميس 22 أغسطس 2024 ، ليفقد الباحثون في مصر والعالم العربي بأسره عالماً لم تخطئه أعين كل من أراد التعرف على كيفية التحليل الواقعي للسياسات الأمنية للدول، ولن أطيل الحديث عن الإنتاج العلمي لأستاذي الراحل الذي تتوجه رسالته للدكتوراه بعنوان «سلوك مصر الدولي خلال أزمة مايو – يونيو 1967» بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1981 التي أسس فيها لمفهوم الأزمة وتصنيفاتها والعوامل المؤثرة على صانع القرار خلالها، وهي الرسالة التي كانت مرجعاً أساسياً لكل من أعد بحوثاً عن إدارة الأزمات ، فضلاً عن إشراف الدكتور علوي على غالبية رسائل الماجستير والدكتوراه ذات الصلة بالقضايا الأمنية والدفاعية والاستراتيجية بالكلية، وكان دائماً لديه الحد الأقصى من الطلبة المقرر لكل أستاذ وأتذكر أنه في عام 2009 وخلال استعدادي لمناقشة رسالة الدكتوراه جاء إليه أحد الطلاب يطلب منه الإشراف على رسالته للدكتوراه فطلب من الكلية إدخال مشرف مشارك معه في رسالتي وهي أستاذتنا الدكتورة نورهان الشيخ حتى يكون هناك فرصة لهذا الطالب وقد حدث، ولن أطيل الحديث عن منجزات أستاذي العلمية التي يعرفها القاصي والداني ولكن كيف جمع بين الجدية والحسم والجوانب الإنسانية، كان حريصاً ودقيقاً للغاية في حث طلابه على الالتزام بالمعايير العلمية والبحث الرصين ولا تهاون في ذلك، وهو ما كان يستهدف مصلحة الدارسين أولاً وأخيراً ولكن ضمن صفات إنسانية فريدة تضمنت تحفيزاً وجدته ليس فقط خلال مرحلتي الماجستير والدكتوراه بل فيما بعدها، حيث كنت على تواصل دائم معه لاستشارته في كافة خطواتي، ففي عام 2014 تم تشكيل لجنة لمناقشة إحدى رسائل الماجستير في كلية الاقتصاد تضمنت أستاذي الراحل الدكتور علوي والزميلة الفاضلة الدكتورة سالي إسحق وأنا، واتصلت به على الفور وشكرت له هذا الترشيح وقلت له يا دكتور لا يصح أن أجلس مع حضرتك في نفس المقام العلمي، فقال لي ضاحكاً لا أنا أصر على مشاركتك لأنه لا بد من تواصل الأجيال العلمية. وكانت سعادتي كبيرة للغاية وكانت المشكلة كيف أتحدث أولاً وفقاً للوائح الكلية وهي تحدث العضو المناقش الخارجي أولاً، لكنني وجدتها فرصة سانحة لأعيد تكرار كل ما تعلمته على يدي أستاذي الراحل، وخلال آخر مرة تحدثت فيها معه سألني عن أحوالي فقلت له الأمور بخير ولله الحمد شاركت في مؤتمرات عديدة وزرت 19 دولة فقال لي ضاحكاً انه زار 43 دولة خلال مسيرته العلمية واستكمل حديثه قائلاً أقول لك ذلك للتحفيز للوصول إلى هذا الرقم بل وزيادة. وذات يوم سألته من كان مشرف حضرتك في الدكتوراه فابتسم قائلاً ألا تعرف؟ فقلت له لا؟ فقال كان الدكتور بطرس غالي الأستاذ السابق بكلية الاقتصاد والأمين العام السابق للأمم المتحدة، ووقتذاك عرفت معنى العائلة العلمية وتسلسلها عبر الأجيال المختلفة، وعندما أردت اختيار موضوع للدكتوراه وذهبت إليه بمقترحات حول أمن الخليج العربي فقال لي هذه موضوعات كتب فيها أهل الخليج العربي كثيراً، فماذا يمكن أن تضيفه في أطروحة الدكتوراه؟ واستكمل حديثه في عبارة لن أنساها «هل تريد وضع د. أمام اسمك فقط أم تريد أن يكون لك موطئ قدم بين الباحثين في تخصصك»؟ وعلى الفور قلته له الثانية، فقال اقرأ كثيراً وعد إلي بموضوع جديد وبعد أشهر وجدت بالفعل مبادرة حلف الناتو تجاه أمن الخليج، وأيد مقترحي وقال إنه موضوع سوف ينمي لديك التفكير الاستراتيجي، فقلت له ماذا لو تفكك الحلف، ما قيمة الرسالة؟ فقال لي حلف وارسو تفكك لأنه قام على إيديولوجية وهي معرضة للنجاح والفشل، لكن الناتو قام على مصلحة والمصلحة لا تنهار، وأضاف «تتحدد أهمية أطروحة الدكتوراه بعاملين وهما ما موضوعها؟ وهل المجتمع العلمي احتفى بها أم لا ؟»، ونصحني بأن أتواصل أيضاً مع زميله الدكتور محمد السعيد إدريس بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام قائلاً «الدكتور محمد زميل وصديق ولديه خبرة عن الخليج العربي أيضاً وأنا لا أمانع أن تحصل منه على مراجع وآراء مع إشرافي وتوجيهي لك أيضاً»، وغيرها من مقولاته المهمة التي كانت أساساً راسخاً لي خلال إعداد كافة دراستي وكتبي المنشورة عن الخليج العربي منها أن التفسير الأوحد مريح لصاحبه، لكنه مضلل علمياً، وضرورة التركيز على البيئة التي تعمل فيها السياسة حتى تكون تصوراتنا موضوعية، ومضامين وتوقيت تلك السياسات، وكانت آخر نصيحة لي أنه لا بد من أن أنشر باللغة الإنجليزية لأن ذلك مسار مهم ويقدم قيمة مضافة للباحث وخاصة في مجال العلاقات الدولية.
وكانت هناك فرص عديدة للالتقاء بالدكتور علوي منها دعوة كلية الدفاع بحلف الناتو بروما له لإلقاء محاضرة في عام 2009، وكنت آنذاك أنا هناك في منحة دراسية بالكلية ذاتها وكانت فرصة مهمة للحديث معه واستشارته في كل ما أقوم به، وللعلم أن كافة الباحثين المصريين الذين حصلوا على منح بتلك الكلية كانوا جميعاً من أشرف عليهم الدكتور علوي في رسالة الدكتوراه، بل إن معظم رسائل الدكتوراه ذات الصلة بالأمن القومي بالكلية كان الدكتور علوي هو مشرفها ،رحمه الله أسس لمدرسة أمنية ذات تفكير استراتيجي وكافة من درسوا معه يشغلون الآن مواقع مهمة سواء في الجامعات أو مراكز الدراسات سواء في مصر أو الدول العربية.
حتى عندما أردت نشر رسالة الدكتوراه حول «تطور الأمن الإقليمي الخليجي منذ عام 2003: دراسة في تأثير استراتيجية حلف الناتو» اتصلت به وسألته عن خيارين فقال لي «إذا كنت تريد الحصول على عائد مادي فاذهب إلى هذا الخيار، أما إذا كنت تريد أن تقرأ لك النخبة الفكرية فاذهب إلى هذا الخيار».
لم أتعلم من أستاذي الراحل علماً فقط، بل مواقف إنسانية عديدة قلّ إن أجدها في الكثير من الناس، كان حريصاً على تواصل الأجيال وتحفيز الباحثين نحو الأفضل، فارقنا جسداً وبقيت كلماته ونصائحه لكافة الدارسين بكلية الاقتصاد وخارجها، رحم الله الدكتور علوي وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه وطلبته الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك