ما أمتع الخلوة بالقرآن الكريم، وهو لسان الله الناطق بالحق، قال عنه العلماء: إذا أردت أن تخاطب الله تعالى، فادخل في الصلاة، يقول تعالى: «الحمد لله رب العالمين (٢) الرحمن الرحيم (٣) مالك يوم الدين (٤) إياك نعبد وإياك نستعين (٥) اهدنا الصراط المستقيم (٦) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (٧) » الفاتحة.
أمَّا إذا أردت أن يخاطبك الله تعالى، وتكون قريبًا منه سبحانه يناجيك وتناجيه، فاقرأ القرآن، يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون» آل عمران / ١٠٢. وكل نداء بـ«يا أيها الذين آمنوا.. » هو نداء تكليف من الله تعالى لعباده المؤمنين، وهذا يعني أن الله تعالى بهذا النداء العظيم والجليل يخاطب المؤمنين، ويفرض عليهم من التكاليف والأوامر والنواهي التي تضبط حركتهم في هذه الحياة، أمَّا حينما تكون القضية التي يطرحها الله تعالى على عبيده الذين لم يصلوا إلى مرتبة الإيمان، فيكون خطابه لهم هو: «يا أيها الناس.. وذلك من مثل قوله تعالى: «يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (٧٣) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز(٧٤)» سورة الحج.
والنداء هنا موجه إلى الذين يعبدون من دون الله آلهة، فوافق أن يناديهم بـ«يا أيها الناس.. » لأنه نداء للعموم يصلح للمؤمن والكافر، وللتأكيد على ذلك قوله تعالى «يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير» الحج / ١٣.
إذًا، فللإنسان حق في أن ينال حظه من خطاب الله تعالى له، فإذا أراد أن يرتقي في العلاقة مع خالقه سبحانه، فعليه أن يؤمن بهذا الإله، ويخلص في الخضوع والعبودية له، لكنه في الحالين لن يحرم من هذا الحق سواء كان قليلًا أو كثيرا لأنه المخلوق الذي استدعاه الله تعالى إلى الوجود ليكون خليفة في الأرض، قال تعالى: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» البقرة / ٣٠.
وكإجراء عملي علم الله تعالى آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة فأقروا بعجزهم عن معرفتها، فأثبت الحق سبحانه للملائكة استحقاق آدم لهذه المهمة أن ابتلاه بذكر أسمائهم، ليس هذا فحسب، بل أمرهم بالسجود له، سجود تكريم لا سجود عبادة، لأن سجود العبادة خاص بالله تعالى لا يشاركه فيها أحد من خلقه، «فسجد الملائكة كلهم أجمعون» سورة ص.
إذًا، فللقرآن مع الإنسان شأن عظيم لا يجاريه شأن آخر، ومتعة في صحبته لا تعادلها متعة لأنه خطاب من الله تعالى لسيد مخلوقاته، للإنسان وما أدراك ما الإنسان الذي احتفى به رب الأرباب وأقام له مهرجانًا عظيمًا حفته به الملائكة أجمعون، وسوف يندم إبليس ندمًا عظيمًا يوم القيامة حين يُبْعَث آدم يوم القيامة وحوله أبناؤه من الرسل والأنبياء الكرام تحفهم الملائكة بينما سوف يُبْعَث إبليس مجللا بالعار ومعه أتباعه من الإنس والجن.
إن صحبة المؤمن لكتاب الله تعالى ليست مقصورة على الاستجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه، بل هناك متعة عظيمة يطمئن إليها القلب، وترتاح إليها النفس في قوله تعالى: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب» الرعد / ٢٨. والعجيب أن هذه الآية الجليلة المباركة جاءت في سورة اسمها سورة الرعد، وكلنا يعرف معنى كلمة الرعد الذي يثير الرعب والهلع للذين استكبروا في الأرض، وطغوا طغيانا، تأتي هذه الطمأنينة حين يستقبلها المؤمن الطائع، الخاضع لأوامر مولاه سبحانه، المقر له وحده بالألوهية والربوبية دون سواه يتحول الرعد إلى رحمة، وراحة، وطمأنينة.!
وتأملوا أن مصدر هذه الطمأنينة هي في انشراح الصدر، وراحة النفس في الإسلام، في قوله تعالى: «من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يَصَّعَّدُ في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون» الأنعام / ١٢٥.
وليست الطمأنينة في هذا وحسب، بل تدبروا في قوله سبحانه : «أَمَّنْ خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أَإله مع الله بل هم قوم يعدلون» النمل / ٦٠.
وتأملوا هذا البيان الإلهي المعجز وهو يشرح لنا هذا الجمال الموحي في قوله سبحانه وتعالى: «وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون» الأنعام / ٩٩.
والتفتوا إلى هذا الجمال الباهر في قوله تعالى: «والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ونها تأكلون (٥) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (٦)» النحل.
وانظروا إلى السماء وما فيها من جلال وجمال، وكيف رفعها الله تعالى بغير عمد نراها، والجبال أرساها وجعلها أوتادًا في الأرض، ورُغمَ ذلك فهي تتحرك لتثبت حركة الأرض التي يظن البعض أنها ثابتة، يقول تعالى: «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون» النمل / ٨٨.
وتأملوا التوازن العجيب والباهر في قوله تعالى: «والسماء رفعها ووضع الميزان (٧) ألا تطغوا في الميزان (٨) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (٩)» الرحمن.
وتدبروا قول الحق سبحانه: «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (٣٩) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (٤٠)» سورة يس.
هذا شيء يسير من المتعة التي يستشعرها المؤمن وهو في صحبة كتاب الله تعالى الذي وصفه العلماء دون أن يدركوا مداه، قالوا: إنه كتاب لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ووصفه أحدٍ أساطين البيان والبلاغة قال: لقد سمعت كلامًا ليس بالشعر، وليس بالنثر، ولا بالكهانة، ولا بالسحر.. إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه يعلو ولا يعلى عليه!
هذا شيء يسير من المتعة التي يرفل فيها قارئ القرآن، المتدبر لآياته وسوره، وهو يتلوه بالليل والنهار، وهو على يقين أنه يملك المعجزة الوحيدة الباقية من معجزات الأنبياء والرسل الكرام عليهم من الله تعالى الصلاة السلام.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك