لسنا معنيين بهوية الرجل الصالح الذي رافق سيدنا موسى عليه السلام في رحلة المعرفة، فحتى في القرآن الكريم غيب هويته وماهيته، فنحن لا نعرف من هو؟ وهل هو إنسان أم مخلوق آخر؟ وهذه القضايا والعديد من الأسئلة لم يبينها القرآن الكريم، لذلك فمن الأولى أن نتركها لأنها ليست مهمة في سياق القصة والموضوع الذي سنتحدث فيه.
بعض من المفكرين قال إن الرجل الصالح هو (القدر المتكلم)، فماذا يعني هذ المصطلح؟
القدر هو حكم الله سبحانه وتعالى وأفعاله في تيسير الأمور، فهو سبحانه وتعالى عالم بمقادير الكون وأحوالها وأزمانها قبل أن توجد، فقد سبق علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في هذا الكون إلا بعلمه وقدرته وإرادته، وكل المطلوب من الإنسان أن يؤمن بهذا (القدر). ولكن هل القدر يتكلم؟
لنعود إلى قصه الرجل الصالح مع سيدنا موسى عليه السلام، وقد ينتابنا الفضول والدهشة والتساؤل، لماذا جعل الله سبحانه وتعالى علم الرجل الصالح أكثر من علم نبي مرسل؟ نحن لا نعرف الإجابة.
وربما التساؤل الآخر هو لماذا كل هذا الإصرار من سيدنا موسى عليه السلام لبلوغ المكان الذي سيلاقي فيه الرجل الصالح (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحرَينِ أَو أَمضِيَ حُقُباً)؟
وجد بعض الباحثين أن هذه القصة تختلف عن بقية القصص التي وردت في القرآن الكريم، إذ يعتقد أن هذه القصة تتعلق بعلم ليس هو علم الإنسان القائم على الأسباب والمسببات، وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي، إنما نحن في هذه القصة أمام علم من طبيعة أخرى غامضة أشد الغموض، علم القدر الأعلى، علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة، كما أسدلت على مكان اللقاء وزمانه وحتى اسم الرجل الصالح وما هيته، إذ قال تعالى (عَبداً مِن عِبَادِنَا)، هذا اللقاء كان استثنائيًا لأنه يجيب على أصعب سؤال يدور في النفس البشرية منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، والسؤال هو: لماذا خلق الله الشر والفقر والمعاناة والحروب والأمراض؟ وكيف يعمل القدر؟
النوع الأول من القدر: يركب سيدنا موسى عليه السلام والعبد الصالح السفينة، فيخرقها بمعنى أن يتلف جزء منها، فيكون رد فعل سيدنا موسى بعمله الدنيوي (قَالَ أَخَرَقتَهَا لِتُغرِقَ أَهلَهَا لَقَد جِئتَ شَيئا إِمرا)، فما يكون من العبد الصالح إلا أن يرد عليه في هذه المرحلة من الرحلة (قَالَ أَلَم أَقُل لك إِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِيَ صَبرا). ولكن عند نهاية الرحلة يوضح العبد الصالح هذا النوعية من القدر إذ يقول (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِينَ يَعمَلُونَ فِي البَحرِ فَأَرَدتُّ أَن أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِك يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصبا). وهو القدر الذي يصيبنا فنظنه أنه شرًا، وذلك بحسب علمنا القاصر الذي لا نستطيع من خلاله أن نرى الصورة كاملة.
فحينما يفشل مشروعنا –أيًّا كان– أو يتلف شيء نمتلكه في حياتنا، أو حتى أن يولد طفلنا ببعض العاهات التي يعاني منها في شخصيته، نجد أنفسنا نجلس ونتذمر ونعاتب الله سبحانه وتعالى إلا أننا لا نفكر أنه قد يكون هذا الفشل أو هذا التلف أو هذا العيب هو سر النجاح فنحن لا نعلم ذلك، فخرق السفينة عطل وأفشل عمل الصيادين لكن هذا التعطيل حماهم من ظلم السلطان، فيذهب هذا العتاب هدرًا فأصحاب السفينة الذين تأففوا من فعل العبد الصالح ما لبثوا أن عرفوا بعد ذهاب سيدنا موسى عليه السلام والعبد الصالح وبعد مجيء جنود السلطان أن خرق القارب كان شرًا في ذات الوقت ولكنه مفيد لهم إلى الأبد، إذ أن السلطات لا تأخذ إلا السفن السليمة. لهذا فيجب علينا أن نؤمن أن كل شر في حياتنا يمنعنا من خطر أشد شرًا علينا.
النوع الثاني من القدر: يمضي الرجلان، فيقوم العبد الصالح الذي وصفه القرآن الكريم بالرحمة بقتل الغلام، وعلى الرغم من ذلك يمضي من غير كلمة، إلا أن سيدنا موسى عليه السلام يغضب ويعاتب بلهجة أشد (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيرِ نَفسٍ لَقَد جِئتَ شَيئًا نُكرًا)، يعاتبه على قتل الغلام والمشي مبتعدًا وكأنه لم يفعل أي شيء.
ويبقى السؤال القائم؛ هل عرفت أم الغلام حقيقة ما حدث لولدها ولماذا قُتل؟ الجواب: لا، بالتأكيد تفطر قلبها، ومن التأكيد مضت الأيام والليالي الطويلة حزنًا على هذا الغلام الذي ربته في حجرها ليأتي رجل غريب فيقتله هكذا وبكل بساطة ويمضي. لم تعرف تلك المرأة حقيقة وطبيعة هذا الولد فهي أمام شر مستطير، فهي لا تعرف ماذا كان من الممكن أن يفعل هذا الغلام عندما يكبر، فكان في علم الغيب مكتوب أنه شرير إن استمرت حياته لذلك تم الانتهاء منه وتخليص الأم والبشرية من شره.
وقتل الغلام؛ يمكن أن يمثل موت شخص عزيز على قلوبنا أو فقد شيء مهم في حياتنا، ولكننا لا نعرف أن موت هذا الشخص العزيز علينا رحمة له من مرض كان يعاني منه، أو ضعف أحل به، أو أن فقدنا لهذا الشخص أو الصديق أو ما نحب ربما تكون رحمة من الله سبحانه وتعالى لنا لأن هذا الشيء أو الصديق قد يكون مستقبلاً شر لنا، فموت الغلام كان رحمة له من دخول النار فأراد الله أن يميته وهو صغير بلا ذنب ليدخله الجنة بدلاً من أن يكبر ويذنب فيدخل النار.
فالحدث الذي نراه يحدث في حياتنا ونحسبه شرًا، قد يكون في باطنه أو في الحقيقة هو خير، ولكنه قد لا يكشف الله سبحانه وتعالى لنا ذلك فنعيش عمرنا ونحن نعتقد أنه شر، إلا أنه خير، فالغلام عندما قُتل لم تعرف أمه أبدًا لماذا قتل.
النوع الثالث من القدر: وربما هو الأهم، فهو الشر يصرفه الله سبحانه وتعالى عنا دون أن ندرك ذلك، فالله سبحانه يحمينا من ذلك الشر ويلطف بنا، فلأيتام لم يعرفوا وكذلك لم يفهم أهل القرية لماذا قام الرجل الصالح ببناء الجدار. ثم نكتشف بعد ذلك أن تحت هذا الجدار كان يوجد ثروة لهؤلاء الأيتام وكان من الحري أن يبقى الكنز في مكانه حتى يبلغ هؤلاء الأيام سن الرشد ويستخرجا كنزهما، وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى. فهل عرف الأيتام أن الجدار كان آيلاً للسقوط؟ وهل عرف سيدنا موسى عليه السلام السر من بناء الجدار؟
فبناء الجدار وحبس كنز اليتيمين؛ يمكن أن يمثل تأخر الرزق في حياتنا، كتأخر وظيفة ننتظرها أو زواج أو أطفال نحلم بهم، قد يكون هذا التأخير والتعطيل في مصلحتنا لأن الله سبحانه وتعالى يختار لنا الوقت المناسب ليعطينا هذا الرزق، فبناء الجدار كان سببًا في تأخير الكنز على اليتيمين حتى يشتد عودهما ويقدرا على استخراج كنزهما بنفسهما (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبلُغَا أَشُدَّهُمَا) لكيلا يتعرضا لطمع أو استغلال الناس.
وتنتهي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح عند هذا الحد، ولكن موضوع القدر وجريان القدر موضوع عميق، فمن الصعب الغوص فيه، حتى لا يغرق الإنسان.
ببساطة فإن هذه القصة تنظم حياتنا روحيًا وتعلمنا أن نواجه الأحداث المفاجئة التي تطرأ على حياتنا بإيمان كامل بالله وثقة في حسن تدبيره لأحداث حياتنا. فلنستعين بإيماننا بلطف الله الخفي لنصبر على أقداره التي لا تفهمهما، ولنقل في أنفسنا، «قد لا أفهم أقدار الله لكنني موقن به وثقتي فيه تؤكد لي أن ما قدره الله خير في كل حال».
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك