بعد أكثر من نصف القرن، بدأ جو بايدن – يوم الإثنين الماضي في المؤتمر العام للحزب الديمقراطي بمدينة شيكاغو – خطوات الخروج من الحياة السياسة الأمريكية التي تنتهي رسميا في منتصف يوم 20 يناير المقبل، عندما يشهد على عملية إلقاء القسم من الرئيس الجديد للولايات المتحدة دونالد ترامب، أو الرئيسة الجديدة كامالا هاريس.
لن يكون التاريخ رحيما ببايدن خاصة بعدما تمسك بالاستمرار في السباق الانتخابي الرئاسي رغم إدراكه، وإدراك الدائرة المقربة منه، حجم وعمق تراجع قدراته الذهنية والعقلية. ولولا الأداء الكارثي في المناظرة الرئاسية التي جمعته بترامب قبل نهاية شهر يونيو الماضي، لكان بايدن اليوم مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات 2024.
لم يتخل بايدن طواعية عن السلطة، رغم أن نسبة شعبيته وصلت إلى أدنى درجاتها لرئيس يسعى لإعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة، بالإضافة إلى كبر سنه مقارنة بكل من سبقوه من الرؤساء البالغ عددهم 45 الذين حكموا الولايات المتحدة منذ تأسيسها قبل نهايات القرن الثامن عشر.
لم يرغب بايدن في التنحي جانبا ليفتح الباب لجيل جديد من القادة الديمقراطيين طواعية، رغم كشف استطلاعات الرأي – على مدار السنتين الأخيرتين – عن رغبة أغلبية الديمقراطيين والديمقراطيات في مرشح آخر أكثر شبابا وحيوية.
بعد تأكد قادة الحزب، وتأكد بايدن نفسه وعائلته، اتجاهه نحو الهزيمة في مباراة العودة ضد دونالد ترامب. لم يعد أمام بايدن إلا الخروج الذي جاء مهينا، خروج حزين ومتأخر للغاية، وكان ذلك نتيجة طبيعية لمرشح تعهد أمام الملايين من الشعب الأمريكي قبل أربع سنوات بتوحيد البلاد، وأن تكون رئاسته لفترة واحدة تمثل «انتقالا» من عهد ترامب، لكنه لم يفِ بوعده الانتخابي.
بعيدا عن الفشل الداخلي الذي يشعر به الملايين من الشعب الأمريكي ممثلا في ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية وأسعار تدفئة وترطيب المنازل وأسعار الكهرباء، مع استمرار ارتفاع معدلات سعر الفائدة لمستويات قياسية صعبت من تحقيق أحلام الملايين في تملك منازلهم، فشل بايدن فشلا ذريعا في كل ملفات السياسة الخارجية.
بدأ إرث بايدن الخارجي بفشل كبير في انسحاب كارثي غير منظم وفوضوي لآلاف الجنود الأمريكيين من الأراضي الأفغانية، لتعود كابول إلى حكم جماعة طالبان بعد ما يقرب من عشرين عاما على الاحتلال الأمريكي.
وأصبحت صور مغادرة الطائرات الأمريكية مطار كابول بينما يحاول آلاف الرجال والنساء والشباب والأطفال الأفغان الهروب معهم بمثابة الفضيحة. بعد أشهر تجاهلت روسيا كل التهديدات الأمريكية وعبرت مئات الآلاف من القوات الروسية حدودها مع أوكرانيا ليبدأ غزو روسي ضخم مستمر حتى اليوم على الرغم من ضخامة الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا ماليا، وعسكريا، وتسليحيا، ودبلوماسيا. فشل بايدن في ردع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ثم كانت الطامة الكبرى بدعمه وتبنيه للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتي نتج عنه حتى اليوم استشهاد أكثر من 40 ألف شخص، وإصابة ما لا يقل عن مائة ألف آخرين، وتدمير قطاع غزة وتجويع سكانه.
زار بايدن إسرائيل عقب هجمات السابع من أكتوبر، وشارك في اجتماعات مجلس الحرب، ونسق وشارك ما تجمعه مخابرات بلاده من معلومات مع إسرائيل. كما عطل قرارات الأمم المتحدة المؤيدة للحق الفلسطيني، وعرقل عمل منظمات الإغاثة الدولية بعدما رفض إدانة ممارسات إسرائيل واستهدافها العاملين بها. هاجم كذلك محكمة العدل الدولية لإدانتها بنيامين نتنياهو بتهم ارتكاب جرائم حرب، وأصبح الشباب التقدمي الأمريكي ينعت بايدن نفسه باسم «بايدن الإبادة الجماعية».
خلال خطبة الوداع أمام المؤتمر العام للحزب الديمقراطي يوم الإثنين الماضي، قال بايدن «سنواصل العمل لإعادة الرهائن إلى الوطن وإنهاء الحرب في غزة، وإحلال السلام والأمن في الشرق الأوسط»، وأضاف «كتبت معاهدة سلام لغزة. قبل يومين، قدمت اقتراحا جعلنا أقرب إلى القيام بذلك مما فعلناه منذ 7 أكتوبر»، تابع بايدن: «نحن نعمل على مدار الساعة، ووزير خارجيتي، لمنع حربا أوسع نطاقا ولم شمل الرهائن مع عائلاتهم وزيادة المساعدات الإنسانية والصحية والغذائية إلى غزة الآن، لإنهاء معاناة المدنيين من الشعب الفلسطيني، وأخيرا، التوصل إلى وقف لإطلاق النار وإنهاء هذه الحرب». إلا أن بايدن اختار تجنب أي مواجهة مع حكومة نتنياهو، والتي تعد أكثر الحكومات تطرفا ويمينية في تاريخ إسرائيل.
على الرغم مما يبدو من استماتة بايدن في السعي للتوصل لصفقة توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مقابل الإفراج عن الرهائن لدى حركة حماس، لا يبدو هذا المسعى ذا أي قيمة طالما لا يرغب في الضغط على إسرائيل للقبول بالصفقة. يبدو أن بايدن، الذي يكرر أنه صهيوني الهوى، ملتزم بولاء أبدى تجاه إسرائيل، يبذل كل هذا الجهد بهدف الاستعراض وليس من أجل إنهاء المذبحة في غزة. لم يكترث بوقف الحرب، ولم يكترث بالاستماع للرأي العام الأمريكي أو العالمي الرافض لاستمرار العدوان، وفقط يريد بايدن ألا تصبح قضية غزة عبئا على الحزب الديمقراطي يستغلها ترامب ضدهم في انتخابات نوفمبر المقبل، ولا يرغب في أن ينتقل إرث العدوان على غزة لتحمله كامالا هاريس.
رغم كل ما يأمل به بايدن، فقد قضت غزة على أي إرث سعى بايدن لبنائه والتفاخر به. سيذهب بايدن ويصبح جزءا من الماضي بعد خمسة أشهر باقية له في البيت الأبيض سيكون خلالها مثل البطة العرجاء، لا يلتفت لها أحد، داخل أو خارج الولايات المتحدة، وليذهب غير مأسوف عليه ملطخا صورته – التي عمل على تشكيلها خلال نصف قرن من العمل في دهاليز السياسة الأمريكية – بدماء أطفال وشعب غزة البريء الذي اختار بايدن أن يتم قتله بسلاح أمريكي لم يتردد في تزويد إسرائيل به، رغم كل ما تقوم به من مجازر وإبادة جماعية وجرائم حرب.
{ كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية، يكتب من واشنطن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك