خلال أزمة الصواريخ الكوبية التي كان فيها العالم على شفير حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في 1962، قيل إن الرئيس الأمريكي جون كينيدي كان دائمًا ما يستحضر كتاب باربرا توكمان «مدافع أغسطس» خلال اجتماعات إدارة الأزمة. كان الكتاب صادرًا لتوه وذا صدى كبير. تناول الكتاب مقدمات الحرب العالمية الأولى، والشهر الأول فيها تحديدًا؛ إذ بدا أن العالم أبعد ما يكون عن مذبحة مروعة استمرت لأربع سنوات، وغيرت العالم معها. تقول توكمان: «في تلك الفترة لم يكن أحد يريد الحرب، على الرغم من أن الكل كان يسن أسنانه ويشحذ سيوفه استعدادًا لها. كان الأمر ينتظر فقط سوء تقدير من أحد الأطراف حتى يتحول التصعيد المكتوم المستمر لسنوات إلى حرب شاملة. كان الوضع أقرب إلى السير نومًا إلى الحرب».
لا يختلف الأمر كثيرًا في الشرق الأوسط عما وصفته توكمان عن صراع القوى الأوروبية قبل الحرب العظمى. فيما تعلن جميع الأطراف المنخرطة في التصعيد الإقليمي عدم رغبتها في الانخراط في حرب شاملة، إلا أنه لا تخفى رغبتها في الانتقام أو الرد على خصومها لاستعادة الهيبة أو إعادة بناء الردع؛ يعني هذا أن المنطقة في انتـظار الخطوة التصعيدية غير المحسوبة التي قد تودي بها إلى الحرب الشاملة المعلنة. بيد أن الأوضاع في المنطقة قد تجاوزت كل هذه الخطوات، مع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر وكل ما تلاها من اتساع لنطاق المواجهة بين إسرائيل، ومن ورائها الدعم الغربي، وحركة حماس في ساحة غزة، وحزب الله على جانبي الحدود الشمالية، والحوثيين عبر البحر الأحمر، وأخيرًا التراشق بالمسيرات والصواريخ بين إيران وإسرائيل للمرة الأولى منذ عقود.
وقت كتابة هذه السطور وإعداد هذا الإصدار، مازالت المنطقة تحبس أنفاسها جراء سلسلة الحوادث التي جرت رحاها بين مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، ثم اغتيال قادة سياسيين وعسكريين لحركة حماس وحزب الله في بيروت وطهران، ضربت هذه الأحداث فرص خفض التصعيد، أو مفاوضات وقف إطلاق النار المتعثرة أصلا بين حماس وإسرائيل؛ بسبب تعنت الأخيرة ومماطلة حكومة نتنياهو التي تنتظر معرفة هوية ساكن البيت الأبيض الجديد، سواء السيدة هاريس أم السيد ترامب. هنا، تبرز معضلة أخرى من معضلات المنطقة، هي أن مصيرها كثيرًا ما تحدد من خارج حدودها. وغالبًا ما كان يتقرر في حرب وعدوان.
ربما ينتظر الجميع شرارة لإطلاق الحرب الشاملة، إلا أن الواقع يشير إلى أن المنطقة دخلت فعلا في حالة حرب غير معلنة، على الأقل إذا عرفنا أن حالة الحرب تعني انعدام فرص الاستقرار والسلم. مثل السير نومًا إلى الحرب العالمية الأولى، ستجد جميع الأطراف المعنية بالصراع المتعدد الجبهات أنها مضطرة إلى التصعيد، وهو ما قد يستدعي فتح جبهات أخرى مكتومة أو أخرى خامدة، وما أكثرها على امتداد المنطقة بين دولها وداخلها. إلا أنها ستكون حربًا بلا معارك كبرى، وبلا استراتيجيات سياسية؛ إذا كان الانتقام وحده ما يحرك دائرة العنف. وإذا كان هناك درس واحد تُعلمنا إياه الحرب الدائرة في قطاع غزة، فهو أن الانتقام لا يمكن أن يشكل استراتيجية ناجعة لخوض الحرب؛ فضلًا عن الانتصار فيها؛ وغالبًا ما يؤدي إلى الإخفاق. فحتى لو نجحت إسرائيل في انتقامها من قادة حماس، بالاغتيال، وسكان قطاع غزة المدنيين بالقتل والتشريد والتهجير، فقد أخفقت نهائيًا في تحقيق هدفها بالاندماج في المنطقة للأبد. لا انتصار حاسم أو نهائي لأحد في حالة حرب الجميع ضد الجميع. يذكر الاستراتيجي الأمريكي إدوارد لوتواك، أن أي استراتيجية ينبغي أن تبدأ بفهم العدو، والإحاطة بدوافعه، وتنتهي بإدراك أن القوة العسكرية مهما عظمت، فهي قاصرة عن ضمان «الانتصار النهائي» أو «الحل النهائي» أو «الحسم التاريخي».
تبدو المعضلة التي تحكم مستقبل المنطقة هي أن تاريخها قد تشكل على مدار القرون الخمسة الماضية من خلال حروب إقليمية، بعضها كان امتدادًا لحروب أكبر من خارج حدودها، كتلك التي شكلت المنطقة في أعقاب انهيار الدولة العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى. ولننظر بهذا المنطق إلى إعادة تشكيل المنطقة في أعقاب حروب 1967، ثم حرب الخليج الثانية في 1991 وغزو العراق في 2003. لقد عكست هذه الحروب مزيجًا من سوء تقدير بعض الفاعلين، والتأثير المدمر للتدخل الغربي في المنطقة. وفي واقع الحال، لا يختلف الشرق الأوسط في تأثير الحرب في تكوينه عن أي منطقة أخرى في العالم. إلا أن الحرب، كقوة طبيعية، قد تكون لها آثار إيجابية في إرساء التوازن، بقدر ما تولد من آثار تدميرية. ويرتبط تعظيم الآثار البناءة للصراعات في إدراك القوى المتحاربة بعدم جدوى العنف في تحقيق الأمن؛ ومن ثم سعيها لإعادة صياغة العلاقات على أساس الأمن المتبادل في أحسن الأحوال، أو إيجاد قواعد للتنافس في أسوأها.
لا يعني هذا أن الحرب في المنطقة حتمية، إلا أنها أصبحت، كما هي دائمًا، واقعًا مريرًا على الجميع التعامل معه. تقول الحكمة الرومانية: «إذا أردت السلام، فأعد العدة للحرب» ولا يعني هذا بالضرورة خوض الحرب؛ بل تهيئة المجتمعات الأكثر تأثرًا بالصراعات لأوضاع أصعب، وتقليل المخاطر، وربما السعي لتجنب اتساع دوائر الصراع، أو احتوائه بأقل كلفة. والأهم اتجاه القوى الإقليمية الراغبة فعلًا في إقرار السلام في المنطقة لمعالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار في المنطقة. سيكون الاعتراف بهذا الواقع أفضل بكثير من التعامل مع الأزمة المزمنة على أنها مجرد «تصعيد»، وأفضل من السير نومًا نحو الهاوية.
لم يعد الحديث عن «اليوم التالي» متعلقًا فقط بشأن قطاع غزة وحده، بل بالمنطقة ككل. وربما لا أحد حاليًا مشغول بهذا التساؤل في هذه المرحلة الأكثر تدهورًا في تاريخ النظام الأمني في الشرق الأوسط منذ تكوينه؛ لذا، سيكون علينا التفكير فيما ستفضي إليه المواجهات الحالية، وما إذا كانت ستفضي إلى استقرار مهدد؛ على نحو ما أفضت إليه مذابح الحرب العالمية الأولى في صلح باريس، الذي كان تمهيدًا لحرب عالمية أخرى أكثر ترويعًا، أم أنها ستفضي فعلا إلى إقرار بنية أمنية جديدة تتوافق عليها جميع الأطراف، وتجعل مصير المنطقة بيد قواها.
من المؤكد أن النظر في الدروس التاريخية، سواء المستقاة من تاريخ المنطقة أم من خارجها، سيعين كثيرًا على رؤية ما قد تفضي إليه مساراتها المستقبلية. إلا أن التعلم منها أضحى موضع شك، مع تكرار أخطاء الماضي، والتمادي فيها من قبل الجميع. وحتمًا، ستتزايد الكلفة البشرية لهذه الأخطاء، وخاصة مع الإفراط في توظيف ما تجود به التقنيات الرقمية من أدوات للقتل والتدمير. بيد أن التجارب التاريخية بقدر ما تحوي من قواعد حديدية أقرب إلى الحتمية، إلا أنها تطرح مسارات كان من الممكن اتخاذها إذا ما توافرت الرؤى الثاقبة لدى متخذي القرار، أو تجاوزوا عقد الطموح السياسي، والتطرف القومي، وغطرسة القوة، ومجرد الرغبة في الانتقام. سيكون إدراك هذا مكلفًا، لكنه حتمي لتجنب المنطقة لمستقبل لا يختلف عما يقع حاليًا في حاضرها.
{ رئيس تحرير دورية اتجاهات الأحداث.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك