على مدار العقد الماضي قامت الدول العربية بتحويل سياستها الخارجية وأهدافها الاستراتيجية تدريجيا نحو الشرق. وكانت عملية إعادة التوجيه هذه تهدف إلى موازنة العلاقات الخارجية بين العالم العربي والقوى العالمية الجديدة، وعلى رأسها الصين، فضلاً عن الاقتصادات الناشئة، كالهند وروسيا. وكان لهذه الجهود تأثير كبير في ديناميكيات الشرق الأوسط.
فبشكل خاص كان تعميق الشراكات الاستراتيجية، خاصة مع الصين؛ سبباً في تغيير قواعد اللعبة وإعادة تشكيل الشراكات الإقليمية بالشرق الأوسط.
في 30 مايو الماضي، احتفلت الصين ودول الشرق الأوسط بالذكرى العشرين لمنتدى التعاون الصيني العربي، الذي تأسس عام 2004.
واستضافت بكين القادة والوزراء العرب لمراجعة الأوضاع الحالية للتعاون الصيني العربي، وإعادة تحديد أولويات السياسات التي يجب اتخاذها في ضوء الأزمات العالمية والإقليمية المتنامية والمعطيات الجيوسياسية المتغيرة. وقد حضر المنتدى ممثلون من 22 دولة عربية، منهم مسؤولون رئاسيون ووزاريون؛ بهدف إعادة هيكلة العلاقات الإقليمية العربية مع الصين بطريقة أكثر فعالية.
أشارت دورة 2024 من منتدى التعاون الصيني العربي (CASCF) على الالتزام المشترك بين الجانبين بإعادة تعريف التعاون طويل الأجل، وسلطت الضوء على أهمية الصين المتزايدة كشريك في صنع السياسات الخارجية بالشرق الأوسط. كما أنه خلال هذه الدورة، أقامت الصين و14 دولة عربية شراكات استراتيجية شاملة، كما قام القادة العرب بإشراك الصين في نشاطات جيوسياسية بالشرق الأوسط في سياق العلاقات بين القوى العظمى والقوى المتوسطة. وفي الوقت نفسه، أظهرت الصين استعداداً سياسياً لفهم الأزمات الإقليمية القائمة بالشرق الأوسط والمساهمة في حلها؛ وتُعد هذه الخطوة تحولاً كبيراً في سياسة الصين الخارجية تجاه المنطقة العربية؛ إذ كانت سياساتها في السابق تقوم على عدم التدخل في شؤون الشرق الأوسط الداخلية.
أضف إلى ما سبق، أنه تم إحراز تقدم كبير خلال المنتدى؛ إذ توصل القادة العرب والصينيون إلى اتفاقيات مهمة. وأسفر المنتدى عن إصدار العديد من الوثائق المهمة، مثل: إعلان بكين، وخطة العمل التنفيذية للأعوام 2024-2026، والبيان المشترك للصين والدول العربية بشأن أزمة غزة. وهذه الوثائق لا تُعد علامة بارزة في العلاقات الصينية العربية فحسب؛ بل تقدم أيضاً خارطة طريق جيدة التصميم للتعاون الإقليمي بين الجانبين في المستقبل.
علاوة على ذلك، أعلن الجانبان إجراءات جوهرية لتعزيز التنمية الإقليمية والعالمية. وتضمن ذلك التوصل إلى توافق في الآراء بشأن القضايا الدولية الرئيسية ذات الاهتمام المشترك، مثل: حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وتغير المناخ، والتحول الأخضر، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيات الجديدة. هذا وستواصل الصين تنسيق استثماراتها الإقليمية، ومبادراتها الاقتصادية، وأنشطتها التجارية مع الدول العربية. ويدعم هذا التعاون –على المستويين الثنائي والإقليمي– الأهداف التنموية للمنطقة العربية، ودور الصين الجديد كقوة عالمية مسؤولة.
لتعزيز التعاون الصيني العربي، كان من الأهمية بمكان التوصل إلى رؤية مشتركة وموقف متفق عليه بشأن الأزمات الرئيسية في الشرق الأوسط، كأزمة غزة على سبيل المثال؛ فالدعم السياسي المستمر الذي قدمته الصين في السنوات الأخيرة للقضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وحل الدولتين؛ سهّل مشاركتها في المنطقة واستكمل مبادئ المستقبل الصيني العربي المشترك.
وعلى الجانب الآخر؛ أدى الموقف المتردد للولايات المتحدة منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر 2023 في غزة؛ إلى تقريب الصين والقوى الشرقية الكبرى الأخرى من المنظور العربي بشأن غزة، وكشف للعالم العربي المواقف الخادعة لحلفائه الغربيين التقليديين بشأن الأزمة. فموقف الصين الواضح المعالم فيما يتعلق بغزة يعزز الثقة السياسية طويلة الأمد بين القادة العرب والحزب الشيوعي الصيني؛ ومن ثم يدعم صورة الصين باعتبارها نموذجاً عالمياً للسلام والرخاء في المستقبل.
ومن النتائج المهمة الأخرى للمنتدى؛ مواءمة العلاقات الصينية العربية في مجالات الاستقرار الإقليمي والعالمي. فلقد تبنت الصين نهجاً متميزاً في التعامل مع عدم الاستقرار الجيوسياسي والأمني في المناطق الأخرى، ووازنت مشاركتها بعناية من خلال أداء دور الوسيط الدبلوماسي في النزاعات الجيوسياسية المعقدة، بدلاً من الزج بنفسها كقوة منحازة؛ وقد رحب العالم العربي بهذا الدور.
وقد أثبت النهج الذي تبنته الصين بالشرق الأوسط فعاليته، وقد تمثل في قيامها بالتوصل إلى اتفاق بين قوتين إقليميتين في الشرق الأوسط، هما: المملكة العربية السعودية وإيران، عام 2023؛ لاستعادة العلاقات. وتطبق الصين نفس النهج في علاقاتها حتى خارج الشرق الأوسط؛ إذ تسهم بنشاط مكثف لحلحلة الأزمة الروسية الأوكرانية. وتتجلى مشاركة الصين في تعزيز السلام عالمياً في دعمها لاتفاق السلام تحت مظلة مبادرة الأمن العالمي، التي تم الإعلان عنها عام 2021، وصممها الحزب الشيوعي الصيني بهدف وضع إطار أمني عالمي يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والإقليمية.
ومع ذلك، فلا تزال هناك حاجة ماسة إلى مزيد من التنسيق بين الجانبين العربي والصيني لتمكين الصين من ممارسة دورها كوسيط للسلام بالشرق الأوسط. وكذلك من المهم أن نعي أن الصين لا تسعى إلى الاستحواذ على دور الغرب بالشرق الأوسط، وأن الدول العربية تقدّر التعاون الواقع بينها وبين الصين بما يتماشى مع أولويات العالم العربي في أجندة التنمية.
إن العالم العربي اليوم حذر في تعاونه مع القوى الخارجية، ولا يريد أن يكرر خطأه السابق حين سمح للقوى الغربية بدمج نفسها بعمق في شؤونه الجيوسياسية والأمنية. فلقد أثبتت أحداث الربيع العربي والتقلبات الأخيرة المتعلقة بالاستقرار الإقليمي أن القيادة الخارجية لأزمات الشرق الأوسط من قبل القوى العظمى؛ ينتج عنها فراغ طويل الأمد في السلطة مع عواقب أخرى سيئة؛ مما يؤثر في الأمن العربي؛ ونتيجةً لذلك فليس من المرجح أن تعيد الدول العربية ارتكاب نفس الخطأ عندما تتعامل مع قوى الشرق اليوم.
وكما ينتهج العالم العربي اليوم منهج الحذر في تعامله مع القوى الخارجية؛ فإن الصين هي الأخرى تتعامل بحذر وتتجنب تولي القيادة الكاملة في حل القضايا العربية، وتسعى في الوقت نفسه إلى أن تنأى بنفسها عن الارتباط بالإمبريالية والهيمنة الغربية. فاستراتيجية الصين تتلخص في استغلال الفرص وإيجاد التوقيت الأنسب لجمع الأطراف المتنازعة على طاولة المفاوضات مع الحفاظ على موقف محايد من الجميع كوسيط. ومن المتوقع أن تصبح الصين -باعتبارها أكبر شريك تجاري لأكثر من 120 دولة ومساهما رئيسيا في التنمية العالمية – جهة فاعلة عالمية يمكن الاعتماد عليها.
بينما يبدو أن العالم العربي يؤيد قيام الصين بدور عالمي جديد؛ فإن تحقيق رؤية الصين للأمن العالمي بالشرق الأوسط لا يخلو من التحديات على المدى الطويل؛ فالحلول المُرضية لأزمات الشرق الأوسط؛ تتطلب التوافق الدبلوماسي والجيوسياسي والأمني مع الدول العربية، فضلاً عن أنها تحتاج إلى موقف صيني أكثر حسماً بشأن الأحداث المضطربة والمربكة في العالم العربي.
وينتقد بعض المراقبين التعاون الصيني العربي لافتقاره إلى مشروعات محددة، على الرغم من الزيارات المنتظمة رفيعة المستوى والاجتماعات السنوية بين الجانبين. ويرى هؤلاء أن الصين والدول العربية يجب أن يتجاوزوا المنتديات المجردة والتوقيع على مذكرات تفاهم عامة؛ لبناء تقدم حقيقي ونتائج ملموسة على أرض الواقع.
ولكي نعرف لماذا تقوم الصين بذلك، فمن المهم أن نفهم أن الصين لديها نهج مختلف في تعاونها وتعزيز علاقاتها مع المناطق الأخرى مقارنة بالغرب. فكثيراً ما يُصدر صانعو السياسات الصينيين إعلانات عامة أو أطر تعاون مجردة عن شكل تعاونهم مع الدول أو الأقاليم الأخرى، ومن مميزات هذا النهج أنه يسمح بإجراء تعديلات على طرق التعاون المقترحة، ويضفي قدراً أكبر من المرونة؛ يُمكِّن من حشد جهات فاعلة محلية ودولية مع مرور الوقت؛ ومن ثم فإن أطر التعاون الفضفاضة التي تنتهجها الصين تعطي الفرصة للمزيد من الإسهامات الإقليمية؛ مما يضمن توافق جداول أعمال المناطق الشريكة ومصالحها واحتياجاتها على المدى الطويل.
يرتبط النهج الصيني المعاصر الخاص بممارسة العلاقات الخارجية بمفهوم «سياسة الشعارات الكبرى»، ويقوم بتوضيح كيف للسياسات الصينية أن تعمل وتتفاعل مع الشركاء الخارجيين. على سبيل المثال، واجهت مبادرة الحزام والطريق انتقادات كبيرة عند إعلانها عام 2013؛ لأنها مجردة وغامضة؛ مما زاد من إحجام البلدان والأقاليم المختلفة عن الانضمام إليها، ومع ذلك، قامت الصين تدريجياً بدمج مشروعات ثنائية وإقليمية قائمة بالفعل في إطار مبادرة الحزام والطريق.
وهكذا، فعلى الرغم من انتهاج الصين لهذا النهج الفضفاض في تعاونها مع الآخرين وإقامة شراكات استراتيجية معهم؛ فإن هذا النهج يسمح للأطراف المعنية بالتكيف مع الديناميكيات المتغيرة، كما أنه يمكنها من إبقاء السيطرة على المبادئ العامة والتعاون المتفق عليه، وإتمامه تدريجيا بمشروعات ومخرجات محددة بناءً على ما وضعه الجانبان معا.
ختاماً، يمثل منتدى التعاون الصيني العربي لعام 2024 علامة بارزة في إعادة تقييم وتعديل وتعزيز التعاون الصيني العربي، ومع وضع الصين الجديد كقوة عالمية كبرى، والأزمات والاحتياجات المستمرة داخل العالم العربي، فمن الأهمية بمكان تعديل شكل التعاون بين الجانبين ليتناسب بصورة أفضل مع الظروف والأحداث الحالية. وأحد الجوانب الجديرة بالملاحظة في هذه الدورة من منتدى التعاون الصيني العربي، هو التوافق الوثيق بين المواقف السياسية والأمنية للجانبين. ولكن لا يزال تنفيذ التوصيات المعلنة يتطلب المزيد من التنسيق والتعاون بين الجانبين على المدى الطويل.
{ باحث أول في العلاقات بين الصين والشرق الأوسط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك