ضمن سياق مخططات إسرائيل لتغليظ حصارها المطبق على قطاع غزة، عقب عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي، أعلن وزير دفاعها يوآف جالانت، منع الكهرباء، الطعام، والوقود عن قاطنيه، الذين نعتهم «حيوانات بشرية» وإبان حلقة نقاشية التأمت، مطلع الشهر الجاري، حول مستقبل غزة، دعا وزير المالية اليميني المتطرف، سموتريتش، إلى تجويع ما يربو على مليوني فلسطيني بالقطاع، حتى الموت. معتبرًا ذلك وسيلة أخلاقية، تبررها غاية استعادة الأسرى الإسرائيليين.
وفقًا لشهادات شخصيات ومؤسسات دولية رسمية، تعتمد إسرائيل «التجويع» سلاحًا ضد الفلسطينيين، بموازاة استراتيجيتي الإبادة والحصار. حيث تفتقد أسرة واحدة، على الأقل، من كل خمس أسر فلسطينية، مياه الشرب والغذاء، بما يعرضها لمخاطر المجاعة والهلاك.
وفى 27 فبراير الماضي، أخطر مفوضون أمميون، مجلس الأمن، بمكابدة سكان غزة، قاطبة، عذابات الجوع، ومعاناة تحصيل الماء، الغذاء والدواء، اعتمادًا على المساعدات الإنسانية، التي يتعذر توافرها بانتظام، لأجل البقاء. ومن ثم باتوا يمثلون 80% ممن يواجهون شبح المجاعة عالميًا، بينما يصارع 25% منهم المجاعة المذرية، التي تعتبرها الأمم المتحدة، أسوأ مستويات انعدام الأمن الغذائي الخمسة.
وبينما كان 85% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات قبل السابع من أكتوبر الماضي، أصبح جلهم اليوم مهددين بالمجاعة. فيما يواجه 335 طفلًا دون الخامسة، شبح سوء التغذية الحاد. وحذر مراقبون أمميون من عدم حصول النساء الحوامل على ما يكفي من التغذية والرعاية الصحية، وتعرض جيل كامل من المواليد لخطر التقزم، جراء اضطراب النمو، إثر سوء التغذية؛ بما يستتبع إعاقات جسدية وإدراكية يستعصي علاجها.
الأمر، الذي اعتبرته الأمم المتحدة، أبشع مأساة لانعدام الأمن الغذائي، يتم توثيقها لتجمع بشرى، على مستوى العالم.
تنوعت أساليب التجويع الممنهج، التي تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. فهي من جهة، تتحكم في حياتهم، إذ يعتمدون عليها في إمدادهم بالكهرباء، معظم المياه، مشتقات البترول، المواد الغذائية والأدوية المستوردة من الخارج، عبر الموانئ الإسرائيلية. وحالة نشوب حرب إقليمية، أو تعرض إسرائيل لهجمات انتقامية من إيران ووكلائها، فسيتضرر الفلسطينيون في الضفة وغزة بالتبعية، جراء اعتمادهم المفرط على إسرائيل في جميع مناحي حياتهم، باعتبارها «القوة القائمة بالاحتلال».
تتفنن إسرائيل في إعاقة دخول المساعدات إلى القطاع، حيث أغلقت المعابر، التي كانت تتيح دخول نحو600 شاحنة يوميًا، وباتت المتحكم الوحيد في حركة القوافل والبضائع، عبر حاجز إيريز. ولا يكفي ما يدخل، حاليا، من السلع والبضائع، لتلبية احتياجات 1% من سكان جنوب ووسط القطاع، بينما تعاني مناطق الشمال حرمانا مروعا. وهو ما أدى إلى تضاعف نسبة الوفيات الطبيعية، بنحو سبعة أضعاف ما كانت عليه قبل العدوان الحالي.
بدم بارد، وفى تحد صارخ للقانون الدولي، لا تتورع قوات الاحتلال عن استهداف موظفي وعمال الإغاثة الأمميين، بغية عرقلة وصول المساعدات إلى غزة، ما أفضى إلى وفاة ما يناهز 150 منهم.
وبموازاة رفض سلطات الاحتلال غالبية طلبات البعثات الإنسانية بالوصول إلى مدينة غزة وشمال القطاع، تتعاظم التحديات والقيود على حركة العاملين في المجال الإنساني، بجريرة أوامر الإخلاء المتكررة، وإعلان بؤر عديدة مناطقَ عمليات. ولم يتوان الإسرائيليون عن التماس السبل الكفيلة بتقويض نشاط «الأونروا»، التي تلعب دورا مركزيا في إنقاذ سكان غزة.
ورغم الإدانات والتحذيرات، التي أطلقتها منظمات الإغاثة الدولية، تنحسر أعداد الشاحنات، التي تنقل المساعدات إلى القطاع، بشكل مقلق، مع اشتداد وطأة القصف، الحصار والإغلاق. فإلى جانب تدمير الطرق والبنى التحتية، بما يعرقل الوصول الآمن للمساعدات، تسيطر سلطات الاحتلال على قوافلها كافة عند معبر رفح، وتتفنن في إعاقتها وتأخير وصولها. ناهيك عن عمليات النهب والتخريب، التي تتعرض لها القوافل القليلة المسموح بمرورها عبر المعابر الحدودية، من قبل اليمينيين المتطرفين الإسرائيليين.
تأبى قوات الاحتلال إلا ممارسة التدمير الشامل والممنهج للنظام الغذائي والبنية التحتية الفلسطينية، بما يعوق إيصال الغذاء الى الجوعى والمنكوبين، كما يقوض قدرتهم على إنتاجه. فلم ترع عن تدمير البيئة الزراعية، وتجريف نحو 22% من مساحاتها، بما فيها آبار المياه، المعدات الحيوية لإحياء الأرض، البساتين والصوبات الحرارية. فضلًا عن حرمان المزارعين من البذور، مياه الري، وقطع الغيار للميكنة الزراعية. الأمر الذي أطاح بآمال أكثر من 200 ألف عامل فلسطيني، لجأوا إلى استصلاح أراضيهم لإنتاج غذائهم، بعدما ألغت سلطات الاحتلال تصاريح عملهم داخل إسرائيل، عقب «طوفان الأقصى». وعلاوة على منع الفلسطينيين من بلوغ البحر، دمر الاحتلال 70% من أسطول الصيد، و75% من منازل القطاع، بما يقوض قدرة قاطنيه على إدراك الطعام، أو حتى تدبيره.
في ديسمبر الماضي، أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش، أن الحكومة الإسرائيلية ترتكب جرائم حرب، باستخدامها تجويع المدنيين الفلسطينيين سلاحًا. وفى مارس الماضي، حذر مسؤول السياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي، من أن استخدام إسرائيل التجويع سلاحًا في الحرب، سيتسبب في حدوث مجاعة بقطاع غزة، الذي وصفه، بأنه كان أكبر سجن مفتوح قبل العدوان، لكنه تحول اليوم إلى أسوأ مقبرة مفتوحة في العالم.
ليس لعشرات الآلاف من الفلسطينيين فحسب، وإنما لمبادئ القانون الدولي. بدورهم، أدان نواب بالبرلمان الأوروبي استخدام الجوع سلاحا في الحرب، مشددين على أن المجاعة في غزة ناجمة عن ممارسة إسرائيل «إبادة جماعية»، عبر تبنيها استراتيجية ممنهجة لمنع وصول المساعدات الإنسانية، وتقويض إمكانية العيش في القطاع، من خلال استهداف الفلسطينيين المتدافعين لتسلم المساعدات. ودعوا إسرائيل الى فتح كافة الممرات والسبل أمام قوافل المساعدات. وحذر مفوض إدارة الأزمات بالاتحاد الأوروبي، من تفشى المجاعة بعموم غزة، ما لم تفتح طرقا برية لإيصال المساعدات إليها. لافتًا النظر إلى أن إسقاط المساعدات جوًا، عبر عمليات أمريكية معقدة، مكلفة، خطيرة، وغير ناجزة أو تدشين ممر بحري قبالة غزة، لن يغني عن ضرورة فتح طرق برية لإيصال المساعدات إلى القطاع المحاصر.
انطلاقًا من اعتبار القانون الدولي، أي تسبب متعمد في التجويع والحرمان جريمة حرب، أصدر مجلس الأمن الدولي، قراره رقم 2417 لسنة 2018، الذي يدين تجويع المدنيين كسلاح في الحرب. كما يشجب الرفض غير القانوني والعرقلة المتعمدة لإيصال المساعدات الإنسانية. ويطالب بحماية الهياكل اللازمة لإيصالها وتعزيز الإنتاج الغذائي. ويُناشد الدول، التي لها تأثير على أطراف النزاعات المسلحة، احترام القانون الدولي الإنساني، والمساهمة في التحقيق بمثل هذه الانتهاكات، ومعاقبة مرتكبيها؛ مع إخطار مجلس الأمن حالة وجود تهديد بحدوث «مجاعة بسبب النزاع».
جدير بالذكر، أن لمجلس الأمن حق فرض عقوبات على الأشخاص أو الكيانات، التي تعيق تقديم المساعدات الإنسانية، أو الوصول إليها، أو توزيعها. غير أن تنفيذ تلك التدابير، يتطلب توفر الإجماع داخل المجلس، وهوما يتعذر حدوثه حاليا، بسبب الانحياز الأمريكي لإسرائيل. وعبر حكمها الصادر في يناير الماضي، دعت محكمة العدل الدولية، إسرائيل إلى اتخاذ تدابير فورية وفعالة، لتسهيل توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية الملحة، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2417.
ما لم يتوقف استخدام إسرائيل للتجويع سلاحًا في الحرب، ستتضاعف أعداد الضحايا الفلسطينيين بوتيرة متسارعة. الأمر الذي ستتجاوز تداعياته تفاقم المأساة الفلسطينية، لتطبع وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء، كونها ستنال من جهود المجتمع الدولي لحماية المدنيين، تعزيز الشرعية الدولية أثناء النزاعات المسلحة، القضاء على الجوع، وضمان الأمن الغذائي، بحلول عام 2030، بوصفه أحد أبرز أهداف التنمية المستدامة الـ17 للأمم المتحدة.
ويؤكد برنامج الأغذية العالمي، أن الأمن الغذائي، التنمية، السلام، جميعها أمور متلازمات. فمن دون السلام، لن يتسنى القضاء على الجوع، الذي يعيق إدراك التنمية المستدامة، وترسيخ الأمن والاستقرار، في ربوع المعمورة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك