لم يكن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، إسماعيل هنية، في إيران، منذ عدة أيام، أمرًا طارئًا أو مستحدثًا في السياسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية؛ بل إن له إرثًا طويلًا، وجذورًا ضاربة في العقلية الإسرائيلية منذ قيامها، غير أن الظرف السياسي والعسكري المعقد في ظل حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر يلقى الضوء على خصوصية عملية اغتيال «هنية»، ورمزية مكان العملية في قلب طهران، وهو ما تستغله تل أبيب دليلًا على قدرتها على الوصول إلى أي مكان للتخلص من أي خطر يهدد دولتها المزعومة.
منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، تمثلت سياسة الاغتيالات والتصفية الجسدية ركنًا راسخًا في العقيدة الأمنية لإسرائيل، تضع به حدًّا لحياة مَن تراهم خطرًا على أمنها، دون الاهتمام بأي تبعات سياسية أو قانونية، إذ اشتقت عقيدة الاغتيالات الإسرائيلية من مقولة تلمودية تنص على «إذا جاء شخص لقتلك، فانهض واقتله أولًا»، بحيث أصبح هذا المفهوم مبدأ توجيهيًّا لأجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية.
لكن منذ 2002، عندما أصبح مئير داغان رئيسًا للموساد، فكَّكَ هيكل الموساد السابق، وأعاد تجميعه للتركيز على المعلومات الاستخباراتية القابلة للتنفيذ، والتي يمكن أن تؤدى إلى عمليات استباقية ووقائية، مثل التخريب، والكمائن، والقتل المستهدف، والاغتيالات، وكان هدفه تحويل الموساد إلى وكالة محاربة قادرة على اتخاذ إجراءات حاسمة ضد أعدائها خارج الحدود، وأعاد تنظيم الموساد لمعالجة هدفين رئيسين؛ مواجهة الدول المعادية التي تحاول الحصول على أسلحة نووية، وفي مقدمتها إيران، ومواجهة الفصائل المسلحة القادرة على مواجهة تل أبيب، مثل حزب الله، وحماس، والحرس الثوري.
وعلى مدار سنوات طويلة، كانت غالبية الاستهدافات الإسرائيلية تحدث – على نحو أساسي – عبر الطرق التقليدية، مثل القتل المباشر بأيدي عملاء استخبارات أو جواسيس، أو من خلال التسميم، ومن خلال وحدات العمليات الخاصة للاغتيالات، مثل «سايرت ماتكال»، أو «شايطيت 13»، أو «دوفدفان»، وهي معروفة بالاغتيالات السرية. إلى جانب ذلك، استخدمت إسرائيل العبوات الناسفة في عمليات الاغتيال، لكنها في السنوات القليلة الماضية ركزت على توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في عمليات الاغتيال ضد أعدائها لتضمن تحقيق أهدافها بدقة، وخاصةً أن عمليات الاغتيال تحقق نجاحات تكتيكية قصيرة الأجل، لكنها تفشل في إنتاج انتصارات استراتيجية طويلة الأجل، ويُعد أبرز دليل على هذا عملية الاغتيال الأخيرة لـ«هنية»، والتي تشير -على نحو قاطع- إلى ضعف رصيد إنجازات الكيان في الحرب العسكرية، وعجزه عن علاج الهشاشة التي كشفها طوفان الأقصى، وانكشاف دور إسرائيل الوظيفي في المنطقة.
يُلقي اغتيال إسماعيل هنية الضوء على تاريخ الاحتلال الإسرائيلي الإجرامي على الأراضي الإيرانية، التي شهدت سلسلة طويلة من الاستهدافات والاغتيالات طالت علماء الطاقة الذرية والنووية، وعسكريين، بالإضافة إلى شخصيات أجنبية مهمة، نفذتها إسرائيل حتى قبل إعلان قيامها، فمنذ سنوات، تخوض إيران وإسرائيل حربًا خفية تتضمن عمليات استخباراتية، واغتيالات، وهجمات برية وبحرية، وفقًا لخطة مدير الموساد الأسبق، تامير باردو، الذي وضع خطة شاملة لوقف طموحات إيران النووية من خلال مجموعة من التدابير المباشرة وغير المباشرة، وبناءً على هذه الخطة، أعدّ الموساد قائمة بأسماء 15 باحثًا مهمًّا كأهداف للاغتيالات، معظم هذه الأسماء كان مسؤولًا عن تطوير البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي الإيراني.
وكان أستاذ الفيزياء، المشارك في تطوير البرنامج النووي الإيراني، مسعود على محمدي، أول مَن اغتيل في 12 يناير 2010، حيث قُتل بقنبلة تم التحكم فيها عن بُعد، زُرعت على دراجة نارية بالقرب من منزله في طهران، وفى 29 نوفمبر 2010، اغتيل مؤسس الجمعية النووية الإيرانية، مجيد شهرياري، بقنبلة مغناطيسية مثبتة بسيارته بواسطة راكبي دراجات نارية في طهران، وفى اليوم نفسه، نجا رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، فريدون عباسي دواني، بأعجوبة، من مصير مماثل، إذ ثُبِّتَت قنبلة مغناطيسية في سيارته، لكنه تمكن من القفز منها قبل أن تنفجر.
بعد ذلك، اغتيل طالب الدكتوراة في الهندسة الكهربائية، داريوش رضائي نجاد، في 23 يوليو 2011، حيث أطلق عليه مسلحون يستقلون دراجات نارية النار عدة مرات خارج منزله في طهران، وفى 11 يناير 2012، قُتل المهندس الكيميائي، المشرف في منشأة تخصيب اليورانيوم، مصطفى أحمدي روشان، ومعه سائقه، في انفجار قنبلة مغناطيسية وضعها راكبو دراجات نارية على سيارته في شمال طهران.
لم تكتفِ إسرائيل باغتيال العلماء النوويين؛ بل استهدفت شخصيات عسكرية مرموقة في الأراضي الإيرانية؛ بهدف إضعاف القدرات الاستراتيجية والدفاعية لإيران، ومن أبرز عملياتها في هذا عملية اغتيال حسن طهراني مقدم، الذي يُشار إليه بـ«أبى البرنامج الصاروخي الإيراني»؛ لدوره المحوري في تطوير قدرات الصواريخ الباليستية الإيرانية.
غير أن عملية اغتيال محسن فخري زاده، كبير العلماء النوويين في إيران، على يد الموساد في 27 نوفمبر 2020 بالقرب من طهران، تُعد واحدة من أكثر العمليات تعقيدًا التي قام بها الموساد على الإطلاق، حيث استُهدِفَ «زاده» باستخدام مدفع رشاش تم التحكم فيه عن بُعد، ثُبِّتَ على شاحنة صغيرة، وشُغِّلَ السلاح من مسافة كبيرة، مما يضمن عدم وجود عملاء على الأرض أثناء التنفيذ، واستخدمت إسرائيل في عملية الاغتيال تقنية الذكاء الاصطناعي لتعزيز الدقة، وكانت العملية تتويجًا لسنوات من المراقبة، وجمع المعلومات الاستخبارية. وبعد أقل من عامين على اغتيال «زاده»، اغتال مسلحون على دراجات نارية العقيد حسن صياد خدايي، في 22 مايو 2022، بطهران، وكان «خدايي» شخصية عسكرية إيرانية بارزة، وعضوًا في فيلق القدس النخبوية، والذراع العملياتية للحرس الثوري الإيراني خارج الحدود الإقليمية.
ماذا يعنى اغتيال «هنية» في طهران؟ حدثت عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في 31 يوليو المنصرم، نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في محل إقامته بأحد المساكن الخاصة بقدامى المحاربين شمالي العاصمة طهران، بعد مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، وتكاثرت التكهنات بشأن تفاصيل الاغتيال، وطريقة تنفيذه، والمسؤول عنه، لكن سرعان ما نشر المرشد الإيراني، علي خامنئي، بيان تعزية باستشهاد إسماعيل هنية، واعتبر الحادثة انتهاكًا للأراضي الإيرانية، متهمًا النظام الإسرائيلي الإرهابي بالمسؤولة المباشرة عن عملية الاغتيال.
ولكشف ملابسات العملية، أرجعت بعض التحليلات سبب اختيار إسرائيل طهران لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وليس الدوحة التي يقيم بها معظم وقته، إلى أكثر من سبب؛ أبرزها: وضع إيران في معضلة، ومعرفة إلى أي حد سترفع إيران من مستوى الرد على تلك العملية، فاختيار تنفيذ الاغتيال في قلب طهران يعنى أن «هنية» كان تحت المسؤولية الأمنية الإيرانية، وهو ما يضع إيران في قلب بؤرة الاهتمام العالمي كمضيف ومدير ومورد للإرهاب. فضلًا عن هذا، فإن كبار المسؤولين الإيرانيين يدركون طبيعة الصراع الذي يتسع في أنحاء الشرق الأوسط، وبدأوا يخشون على مصيرهم، حيث بعث اغتيال «هنية» رسالة مفادها أن استهداف إسرائيل لأي شخص تريد التخلص منه أمر سهل، حتى لو كان في قلب الجمهورية الإسلامية.
ومن هذا يمكن القول بأن عملية الاغتيال هذه منحت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأمل لاسترجاع ثقة الشارع الإسرائيلي بحكومته، بعد فشل تمديد الهدنة، وفشل نتنياهو في إعادة أسراه لدى حماس، خاصة أن الجيش الاسرائيلي يرى أن حملة شاملة من الاغتيالات على قادة حماس هي السبيل الوحيد لتحقيق الانتصار، والقضاء على الحركة من خلال رموزها وقادتها، وإجبارها على الخضوع للمطالب الإسرائيلية فيما يخص صفقة تبادل الأسرى.
بالنظر إلى القائمة الطويلة من عمليات الاغتيال التي نجحت إسرائيل في تنفيذها على الأراضي الإيرانية، والتي كان أبرزها العملية الأخيرة لـ«هنية»، من الواضح أن الجمهورية الإسلامية فشلت في مهمتها الأساسية، المتمثلة في الدفاع عن البلاد، واتضح أن الفشل الاستخباراتي الإيراني وراء مقتل «هنية»، وليس من الصعب أن نفهم لماذا حدث هذا؛ ذلك لأن قوات الأمن في البلاد تكرس معظم طاقتها لقمع المعارضين، سواء في إيران أو خارجها، على أمل استخدامهم كأوراق مساومة. والواقع أن انتزاع الاعترافات القسرية من عملاء الموساد عن طريق التعذيب يساعد النظام الإيراني على تحقيق أغراضه الدعائية، ولكنه ليس أداة فعالة لمكافحة التجسس وردع إسرائيل؛ ما يجعل السهولة التي تعمل بها إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية، والتي كشفت عنها ملابسات اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قلب إيران، تستحق مزيدًا من الدراسة، والتحليل، والتساؤل.
{ باحثة دكتوراه في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك