حكمةٌ تعلمناها ونحن صغار في المدارس الابتدائية وهي تقول «الوقاية خير من العلاج»، أو بصياغة أخرى «درهم وقاية خير من قنطار علاج». وهذه الحكمة، أو المثل والقول المأثور ومدلولاتها ومعانيها ليست حكراً على العالم العربي والإسلامي، فهي بهذه الصياغة مغروسة أيضاً منذ القدم في المجتمعات الأخرى الغربية والشرقية؛ أي أن هناك اتفاقاً دولياً واجماعاً كاملاً بين جميع البشر في جميع مراحل التاريخ وفي كل أنحاء العالم على مفاهيم هذه الحكمة ومصداقيتها وواقعيتها في حياتنا اليومية، بل إن هذه الحكمة أصبحت الآن حقيقة علمية منهجية تتبعها وتُدرسها الجامعات ومراكز الأبحاث.
فهذه الحكمة الدولية الجامعة تعْني وباختصار شديد أن الأولوية في علاج أية قضية تواجه الإنسان والمجتمعات البشرية، سواء أكانت بيئية أو صحية أو اجتماعية أو اقتصادية تكمن أولاً في اتخاذ كافة الإجراءات والوسائل لمنع وقوع القضية من جذورها والوقاية منها قبل وقوعها. كما تؤكد هذه الحكمة أنه لا جدوى على المدى البعيد لمواجهة أي قضية باستخدام مدخل العلاج عندما تنزل على البشر، فإذا لم نمنع أسباب وقوع القضية، ولم نحارب العوامل المؤدية إلى نزولها، فالعلاج حتماً لا ينفع ولا يجدي ولا يقضي على القضية من أساسها، فهي ستنزل مرة ثانية، وثالثة ولن تنتهي أبداً، ولا يمكن التخلص منها كليا واستئصالها من جذورها في أعماق الأرض، وبأسلوب عصري حديث فإن هذه الحكمة هي طريقنا إلى تحقيق التنمية المستدامة.
فنحن نقف اليوم أمام قضية صحية عامة نزلت على المجتمع البشري برمته في كل أنحاء ومدن العالم، وهي انتشار مرض جدري القردة (monkeypox) مرة ثانية في العالم ومن جديد، وكأن الإنسان لم يتعلم من الدروس الماضية عندما عم البلاء أول مرة، واشتد في الكثير من المدن، ولم يتعظ من آلام المرضى ومعاناة المصابين، ولم يستفد من آهات أسر ضحايا هذا المرض المعدي العقيم الذين فقدوا عزيزاً لهم فريسة لهذا المرض.
فنتيجة لتفشي هذا المرض وانتشاره في دول العالم، وبالتحديد في 116 دولة، قررت منظمة الصحة العالمية في 22 يوليو 2022 الإعلان عن أن مرض جدري القردة بأنه يُعد حالة طوارئ صحية عامة، حيث كانت المحصلة النهائية لعدد الحالات المرضية أكثر من 99 ألف حالة، انتقل أكثر من 208 منهم إلى مثواهم الأخير.
وقد اكتشف العلماء أول ظهور للمرض قبل أكثر من 55 عاماً، وبالتحديد في جمهورية الكونجو حيث انتقل فيروس جدري القردة الذي هو نوع من أنواع الفيروس الشهير الذي يسبب مرض الجدري من الحيوانات إلى الإنسان، ثم تطور هذا الفيروس من خلال تحورات الفيروس وانكشاف سلالات جديدة تأقلمت وتكيفت مع جسم الإنسان، وبدأ ينتقل بين البشر من إنسان إلى آخر وفي دول أخرى أفريقية غير الكونجو. ومع الزمن ومع هذه التحورات في الفيروس، أصبحت له القدرة على العدوى السريعة بين البشر وغزو دول أخرى لم تكن تعرف من قبل بوجود هذا الفيروس المرضي المعدي، فانتقل إلى القارة الأوروبية والأمريكية وقارة آسيا، حتى شمل كل قارات الأرض.
وبعد قرابة سنة واحدة من الجهود الدولية المشتركة، وبالتحديد في مايو 2023، والتنسيق بين الدول للتصدي لهذا الفيروس، نجح المجتمع البشري جزئياً في السيطرة على المرض وخفض أعداده في كل مدن العالم.
ولكن لم تمض أشهر طويلة حتى أطل الفيروس برأسه من جديد وانكشف المرض مرة ثانية، ولكن تحت مسمى جديد أيضاً هو جدري إم (Mpox).
فبدأ كالعادة في جمهورية الكونجو ثم في 13 دولة إفريقية، حتى وصلت الحالات إلى 17 ألف حالة مرضية في القارة الأفريقية فقط، قضى منهم 524 نحبهم حتى 15 أغسطس 2024، مما اضطرت القارة الإفريقية في 13 أغسطس إلى اعتبار المرض حالة طوارئ صحية عامة. ولكن هذا الفيروس لم يحصر نفسه في القارة الإفريقية، حيث أخذ يزحف رويداً رويداً إلى خارج الحدود الجغرافية للقارة الإفريقية، مما دعا منظمة الصحة العالمية إلى الإعلان عن الفيروس كحالة طوارئ صحية دولية عامة في 14 أغسطس، أي بعد قرابة 15 شهراً من إعلان الوباء الصحي الأول من المرض، فكان الزحف الأول إلى السويد في قارة أوروبا في 15 أغسطس، ثم في قارة آسيا في باكستان في 16 أغسطس من مرضى مصابين قادمين من دولة الإمارات العربية المتحدة.
فالفيروس الآن يعد أخطر بكثير من الفيروس الأولي الذي ظهر قبل نحو عامين، وأكثر عدوانية وأشد وطأة على صحة الإنسان وأكثر تنكيلاً بسلامته. فالفيروس في الوباء الأول كان من ضمن النوع الثاني من مجموعات فيروسات جدري القردة (clade II)، فهو الذي كان المتهم والمسؤول عن تفشي الوباء، وقد كان الفيروس لطيفاً بالإنسان وأكثر رحمة به. ولكن الوباء الحالي سببه تحور وتغير في الفيروس القديم، ويقع من ضمن النوع الأول (clade 1b) وبالتحديد سلالة جديدة قاسية ومعدية جداً، وتفتك سريعاً بصحة المصاب، فله القدرة على قتل نحو 10% من اجمالي أعداد المصابين.
ومن هذين الحالتين والكارثتين الصحيتين نرجع إلى الحكمة القائلة «الوقاية خير من العلاج»، ونؤكد على ضرورة تبني مدخل الوقاية واتخاذ الإجراءات التي تستأصل أسباب المرض من شرايين المجتمع برمته حتى ننجح في القضاء عليه جذرياً. ففي كلتا الحالتين أجمع الأطباء وعلماء الفيروسات واتفقوا على أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا المرض هو سلوكيات الإنسان الخاطئة، وممارساته الفاسدة، وأعماله اللاأخلاقية، والتي تتمثل في الممارسات الجنسية المنحرفة بين الرجال والنساء، وبالتحديد العلاقات الجنسية الشاذة بين الرجال.
فمع تأكيد الأطباء على سبب تفشي الوباء في الحالتين في دول العالم، هل قام المجتمع الدولي بمنظماته، وجمعياته، وآلياته المختلفة على التعامل مع هذه الأسباب بأسلوب منهجي يعتمد على مواجهة هذه الممارسات المنحرفة من شرذمة قليلة من البشر نشرت العدوى في كل أنحاء العالم؟
وهل تصدى المجتمع البشري في كل دول العالم لهؤلاء الناس ومنعهم عن هذه التصرفات المشينة وغير الصحية؟
وبعبارة أخرى، هل تبنت منظمة الصحة العالمية والجهات المعنية بحماية صحة الناس في العالم منهجية الوقاية من الوباء من خلال منع كافة العوامل والأسباب المؤدية له، حتى لا يخرج لنا المرض مرة ثالثة؟
ولكن مع الأسف إن ما أراه في الواقع يسير في عكس اتجاه الحكمة الصحية «الوقاية خير من العلاج»، فالأسباب المؤدية إلى جدري القردة يتم تشجيعها والتعاطف معها وملاطفتها تحت مبرر حرية الرأي والتعبير، وحقوق الإنسان. وما أشاهده أمامي هو الأخذ بيد التيار المنحرف وتحفيزه وتشجيعه على ممارساته على مستوى كل دول العالم، والذي أدى إلى انكشاف الوباء في المرة الأولى والثانية، وإذا واصلنا هذا النهج فيظهر وباء أكثر تدميراً لأمننا الصحي وربما لا نستطيع السيطرة عليه.
فكيف سننجح في القضاء على جدري القردة إذا كنا لا نقضي على أسبابه؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك