لقد ظلت الفكرة بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو الذي يصر على شن الحرب على غزة وهو الذي يصر على استمرارها بشكل أساسي من أجل نفسه تهيمن فترة طويلة على التحليلات السياسية حول هذا الموضوع. وغالباً ما يتم العمل على الإبقاء على هذه الفكرة حية من قبل الرأي العام داخل إسرائيل نفسها.
وتشير أغلب استطلاعات الرأي التي أجريت منذ بداية الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة إلى أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين يعتقدون أن قرارات بنيامين نتنياهو تحركها مصالح شخصية وسياسية وعائلية.
قد يبدو هذا الاستنتاج مريحا للغاية وملائما للبعض إلا أنه يظل غير دقيق بالمرة. فالقائلون بهذه الفكرة يفترضون خطأً أن الشعب الإسرائيلي يعارض حرب نتنياهو في غزة، رغم أنه في الواقع يوافق تمامًا على جميع التكتيكات التي ظل يستخدمها الجيش الإسرائيلي حتى الآن.
وعلى سبيل المثال، بعد مرور أكثر من 300 يوم على الحرب، يؤيد 69% من كل الإسرائيليين تكتيكات الاغتيالات اليائسة التي ينتهجها نتنياهو، بما في ذلك مقتل الزعيم السياسي الأعلى لحركة حماس، إسماعيل هنية، الذي قُتل في طهران في يوم 31 يوليو الماضي.
ورغم أن قرار نتنياهو باستهداف زعيم سياسي يعكس فشله ويأسه، فكيف نفسر حماس الشعب الإسرائيلي لتوسيع دائرة العنف؟
يكمن الجواب على هذا السؤال فيما حدث يوم 7 أكتوبر، أي الهجوم الفلسطيني على منطقة غلاف غزة والهزيمة غير المسبوقة للجيش الإسرائيلي. والحقيقة فإن الوقت قد حان للبدء في التفكير فيما وراء حدود نظرية الانتقام، التي هيمنت على فهمنا وتحليلنا للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
ظلت إسرائيل لسنوات قبل الحرب الحالية تتحرك ببطء وتنزلق تدريجيا نحو اليمين واليمين المتطرف، حيث تجاوز تطرفها السياسي تطرف أي جيل من القيادة الصهيونية التي حكمت إسرائيل منذ التطهير العرقي للفلسطينيين في عام 1948.
لقد أظهر استطلاع أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي ونُشرت نتائجه في يناير 2023 أن 73% من اليهود الإسرائيليين، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا، يعتبرون أنفسهم «يمينيين».
وبالنظر إلى أن أمثال الوزراء الإسرائيليين الحاليين إيتامار بن جفير، وبتسلئيل سموتريش، وأوريت ستروك، يصنفون أيضًا على أنهم «يمينيون»، يمكن للمرء أن يستنتج أن غالبية الشباب الإسرائيلي يصنفون عمليا على أنهم متطرفون يمينيون.
هؤلاء الشباب أنفسهم هم الذين يشكلون نواة الجيش الإسرائيلي وحركة الاستيطان. إنهم الذين هم ينفذون الإبادة الجماعية في غزة، والمذابح اليومية في الضفة الغربية، ويعملون كجنود مشاة في الحملات العنصرية واسعة النطاق التي تستهدف المجتمعات العربية الفلسطينية داخل إسرائيل.
هناك عدد لا بأس به من المحللين الذين حاولوا شرح كيفية تحول إسرائيل إلى مجتمع يميني بالتأكيد، وكيف أصبح الشباب، على وجه الخصوص، يلعبون دورهم كحراس بوابة النسخة الإسرائيلية من القومية الانتحارية.
ومع ذلك، ينبغي أن يكون التفسير واضحا. إن التطرف اليميني الموغل في إسرائيل ليس سوى تطور طبيعي للأيديولوجية الصهيونية التي كانت، في أكثر أشكالها «ليبرالية»، مبنية دائمًا على الكراهية العرقية، والشعور بالتفوق العنصري والعنف المتوقع.
وعلى الرغم من أن الصهيونية الأيديولوجية بكل مظاهرها اتبعت بشكل أساسي نفس مسار الاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي، إلا أنه كان هناك صراع بين مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي.
لقد عمل من يسمون أنفسهم بالليبراليين-ممثلين في المستويات العليا من الجيش ودوائر الأعمال وبعض الجماعات السياسية الوسطية واليسارية – على الحفاظ على التوازن بين نظام الفصل العنصري الاستعماري في فلسطين المحتلة، ونظام ليبرالي انتقائي لا ينطبق إلا على اليهود. داخل إسرائيل.
لقد كان لليمين المتطرف أفكار أخرى. فلسنوات عديدة، ظل معسكر اليمين الإسرائيلي، بقيادة نتنياهو نفسه، ينظر إلى أعدائه الأيديولوجيين داخل إسرائيل على أنهم خونة، حتى أنهم تجرأوا على الانخراط في «عملية سلام» مع الفلسطينيين – حتى لو كانت هذه العملية مجرد واجهة، في المقام الأول.
أراد اليمين التأكد من أن التواصل الإقليمي بين ما يسمى بـ«إسرائيل ذاتها» والمستوطنات اليهودية غير القانونية ليس تواصلا ماديًا فحسب، بل تواصلا أيديولوجيًا أيضًا. هكذا تحرك المستوطنون ببطء، على مر السنين، من هامش السياسة الإسرائيلية حتى بلغوا مركز السياسة الإسرائيلية وأصبحوا يديرون اليوم دفتها.
وخلال الفترة ما بين شهر أبريل 2019 وشهر نوفمبر 2022، شهدت إسرائيل إجراء خمس انتخابات عامة مختلفة. ورغم أن تركيز أغلبها ظل منصبا على دور نتنياهو في تقسيم المجتمع الإسرائيلي، فإن الانتخابات، في الواقع، كانت بمثابة معركة تاريخية بين الجماعات الأيديولوجية في إسرائيل لتحديد مستقبل البلاد واتجاه الصهيونية.
وفي الانتخابات الأخيرة، فاز المتطرفون اليمينيون، وشكلوا الحكومة الإسرائيلية الأكثر استقرارا منذ سنوات. وبينما كان اليمين مستعداً لإعادة تشكيل إسرائيل بشكل دائم، ومؤسساتها السياسية والتعليمية والعسكرية، والأهم من ذلك، القضائية، حدث الهجوم يوم 7 أكتوبر 2023.
في مستهل الأمر كان هجوم حماس والعواقب التي أعقبته يشكل تحدياً لكل شرائح المجتمع الإسرائيلي: الجيش المهين، وأجهزة الاستخبارات المتدهورة، والساسة المتواضعين، ووسائل الإعلام المرتبكة، والجماهير الغاضبة.
لكن التحدي الأكبر كان يواجهه اليمين المتطرف، الذي كان على وشك تشكيل مستقبل إسرائيل لأجيال. وبالتالي فإن حرب غزة لا تشكل أهمية بالنسبة لنتنياهو فحسب، بل أيضاً بالنسبة إلى مستقبل معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل، والذي تحطم برنامجه السياسي والإيديولوجي بالكامل، وعلى الأرجح لا يمكن إنقاذه.
وهذا من شأنه أن يساعد في تفسير التناقضات الواضحة في المجتمع الإسرائيلي، على سبيل المثال، عدم الثقة في دوافع نتنياهو، والثقة في الحرب نفسها؛ والانتقادات الواسعة لفشله العام، والموافقة على أفعاله وغيرها من التناقضات الأخرى.
ولا يمكن تفسير هذا الالتباس الظاهري ببساطة على أساس قدرة نتنياهو على التلاعب بالإسرائيليين. وحتى لو فقد اليمين الإسرائيلي كل ثقته في نتنياهو، فمن دونه كشخصية موحدة، فإن كل شيء سيضيع، ليس فقط فرص معسكر اليمين المتطرف في إنقاذ نفسه، بل أيضاً مستقبل الصهيونية ذاته.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك