منذ ما يقرب من ربع قرن وتحديداً ما قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن هناك اهتمام أكاديمي كبير بالجماعات دون الدول ليس فقط لعدم وجود تأثير كبير لها سواء على مستوى الأمن الإقليمي أو الأمن العالمي، ولكن لاختلاف توصيف تلك الجماعات، فالبعض اعتبرها ميلشيات والبعض الآخر اعتبرها حركات سياسية، ولكن خلال العقدين الأخيرين برزت تلك الجماعات في مناطق الصراعات وأصبحت محركاً لها في ظل ثلاثة عوامل أولها: أنها تكونت من أفراد كانوا على دراية بمؤسسات الدولة وخاصة الأمنية منها كما هو الحال في ليبيا والعراق واليمن ومن ثم مثلت أنشطتها تهديداً للأمن الوطني لتلك الدول في ظل هوة الشقاق بين الجماعات المتصارعة عموماً، وثانيها: قدرة تلك الجماعات على توظيف التكنولوجيا الحديثة في تلك الصراعات وهي رخيصة الثمن باهظة التأثير مما أوجد معضلة أمام الجيوش النظامية بل ونظم التسلح التقليدية، وثالثها: أنها أضحت طرفاً في المفاوضات ذات الصلة بعملية الانتقال السياسي بما يعنيه ذلك من أن أحد أسس التفاوض ليس فقط رؤيتها السياسية، ولكن مدى ما لديها من قدرات على الأرض.
وخلال السنوات الماضية عكست أنشطة تلك الجماعات مؤشرات لجهة تهديد الأمن الوطني وكذلك الإقليمي، وكان التساؤل الأكثر إلحاحاً هل تستطيع تلك الجماعات امتلاك قنبلة نووية أو أسلحة كيمائية؟ وهو تساؤل مشروع وخاصة في ظل وجود حوادث عكست خطورة ذلك الأمر ففي عام 1995 قام أفراد من إحدى تلك الجماعات بتنفيذ هجوم في مترو أنفاق طوكيو باستخدام غاز السارين الأمر الذي أدى إلى مقتل 12 شخصا وإصابة آلاف الأشخاص جراء استخدام ذلك الغاز، بالإضافة إلى ما يتردد بشأن استخدام غاز الكلور في بعض مناطق الصراعات الأخرى، وعلى المستوى الدولي كان هناك اهتمام ملحوظ بأنشطة تلك الجماعات، وخاصة ما يرتبط بالإرهاب النووي، ففي قمة الأمن النووي التي استضافتها الولايات المتحدة عام 2016 تضمن بيانها الختامي أن «تهديد الإرهاب النووي يظل أحد أكبر التحديات التي تواجه الأمن الدولي».
وقد يكون معروفاً للكثيرين تاريخ ونشأة الجماعات دون الدول وخاصة على المستوى الإقليمي ولكن الأمر المهم ما هو تأثيرها على الأمن الوطني والأمن الإقليمي؟ وتكمن الإجابة عن ذلك التساؤل في ثلاثة مؤشرات على سبيل المثال لا الحصر الأول: تأخر حدوث توافق سياسي وخاصة داخل الدول التي تمر بمرحلة انتقالية طال أمدها منذ تحولات العالم العربي عام 2011 فبدلاً من الحوار المؤسس على تفاهمات سياسية تستهدف الحفاظ على الدولة الوطنية الموحدة أصبح الأمر حرب الكل ضد الكل وتصبح الغلبة لمن لديه وجود فعلي وقوي على الأرض بما يعنيه ذلك من إفراغ كافة المبادرات لحل الصراعات من مضمونها، والثاني: أن ممارسات تلك الجماعات والمليشيات كانت سبباً في تأسيس تحالفات دولية لمواجهتها ومن ذلك التحالف الدولي لمحاربة داعش عام 2014 وتحالف حارس الازدهار عام 2023 لمواجهة تهديدات الأمن البحري وكلاهما بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وللتحالفات أهداف وسبل لمشاركة الدول فيها وما تفرضه من التزامات، والثالث: إيجاد معادلة جديدة للأمن، فالأمر لم يعد الدول والمنظمات الإقليمية والدولية والقوى الكبرى بل والجماعات دون الدول التي أضحت أحد اللاعبين الإقليميين.
ويعني ما سبق أن الأمن بمستوياته الثلاثة الوطني والإقليمي والعالمي أصبح أمام تحد جديد بل أن الجماعات دون الدول هي التي أنهت الفواصل بين مستويات الأمن الثلاثة المشار إليها ولذلك مخاطر وتأثيرات أولها: تراجع الوسائل السلمية لحل النزاعات لصالح العمل العسكري والذي لم يحقق نتائج حاسمة في ظل امتلاك تلك الجماعات للتكنولوجيا وقدرتها على إطالة أمد الأزمات وتنهض تهديدات الأمن البحري في البحر الأحمر وباب المندب دليلاً على ذلك، وثانيها: تراجع أدوار تنظيمات الأمن الإقليمي لصالح التدخلات العسكرية الدولية، ففي ظل وجود مثل تلك الجماعات وقدرتها على تهديد المصالح الحيوية للدول الكبرى فإن ذلك يتجاوز نطاق عمل تنظيمات الأمن الإقليمي وترى الدول الكبرى ذاتها مدعوة للتدخل العسكري لمواجهة تلك المخاطر، ولاشك أن غياب أو تغييب عمل المنظمات الإقليمية يرتب آثاراً سلبية لجهة تسوية الأزمات الإقليمية انطلاقاً من خصوصيتها ومنع تدويلها، وثالثها: تأخر تحقيق توافق وطني داخل الدول التي تمر بحالة تحول بما يرتب مخاطر ليس أقلها تقسيم الدول ذاتها وهو الأمر الذي لا ينعكس على الأمن الوطني للدول بل منظومة الأمن الإقليمي بأسرها.
ومع تعدد أسباب الأمن الإقليمي الراهنة وبغض النظر عما ستؤول إليه تلك الأزمات فإن أنشطة الجماعات دون الدول والتي أصبح لديها اتصال وتنسيق واضح تعد أبرز تهديدات الأمن الإقليمي وخاصة في ظل ما لديها من قدرات تسلح وقدرتها أيضاً على توظيف التكنولوجيا الحديثة في تلك الصراعات بما يتجاوز مستوى الأمن الإقليمي ليطال طرق التجارة العالمية أخذاً في الاعتبار في الوقت ذاته المرتكزات التقليدية للصراعات ومنها الجغرافيا والحرب التقليدية كما هو الحال في حرب غزة.
وكما أشرت في مقالات سابقة الإطار النظري الأكثر ملاءمة لفهم تأثير تلك الجماعات على الأمن الإقليمي هو ما قدمه المفكر الأمريكي باري بوزان والذي يعد من أكبر الخبراء المتخصصين في نظريات الأمن الإقليمي وقدم أفكاراً مهمة حول الجوانب غير العسكرية للأمن وكذلك مفهوم الأمن الإقليمي وأهميته وكيفية تأثر الأمن الإقليمي بمناطق الجوار وغيرها من المفاهيم المهمة التي تنطبق على حالة الأمن الإقليمي الراهنة ، ومن ثم ففي تقديري أن حل معضلة الجماعات دون الدول تقع على عاتق الدول التي تواجه أزمات مزمنة من خلال مبادرات وطنية لدمج كافة تلك القوى في بوتقة وطنية واحدة بعيداً عن الانقسامات على أسس بغيضة واجهتها العديد من الدول وتجاوزتها بنجاح ومنها الدول الأوروبية ذاتها، من ناحية ثانية فإن تنظيمات الأمن الإقليمي يقع على عاتقها مهام عديدة لتقديم مبادرات شاملة تستهدف جمع كافة الأطراف ضمن حوار يتضمن حل كافة القضايا الخلافية ضمن مراحل زمنية محددة، من ناحية ثالثة فإن المجتمع الدولي سواء كدول كبرى أو منظمات دولية مدعوة لممارسة أدوار أكثر فاعلية سواء في تعريف وتوصيف تلك الجماعات أو كيفية حثها على الاندماج ضمن المنظومة الوطنية في مناطق الصراعات.
في ظل تعقيدات الوضع الإقليمي الراهن فإن الحديث عن مستقبل وترتيبات الأمن الإقليمي تكتنفه صعوبات عديدة بدون وجود رؤى وطنية وإقليمية ودولية للجماعات دون الدول بغض النظر عن مسمياتها سوف تظل تحديا هائلاً.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك