في أعقاب نجاة «دونالد ترامب» من محاولة اغتيال في ولاية «بنسلفانيا» منتصف يوليو 2024، أصبح ترامب يمثل صورة المرشح الجمهوري الجريء الذي وحد صفوف حزبه خلفه، ثم بات ضحية للعنف بدوافع سياسية، ما دفع العديد من وسائل الإعلام الغربية إلى توقع احتمال انتخابه مرة أخرى للبيت الأبيض. كما أوضح «توني دايفر» من صحيفة «التليغراف» في ذلك الوقت، فإن الحملات السياسية مثل تلك الخاصة برئاسة الولايات المتحدة غالبًا ما يتم تحديدها من خلال «فرص» ذهبية، ومثّلت محاولة اغتيال ترامب «اللحظة الأكثر أهمية منذ عقود»، والتي قد «تنتهي بوصوله للبيت الأبيض» في 2025. وما زاد من دعم تلك التوقعات والاحتمالات تراجع الرئيس الحالي منافسه الديمقراطي «جو بايدن» في استطلاعات الرأي، وذلك عقب أداء كارثي في المناظرة، وحدوث سلسلة من الأخطاء المحرجة.
بيد أنه وفي غضون أقل من شهر، انقلبت المنافسة على الرئاسة الأمريكية رأسًا على عقب. فعقب أسابيع من الضغوط الشديدة، وافق «بايدن» على التنحي وعدم السعي لإعادة الترشح؛ ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يفعل ذلك منذ أكثر من 55 عامًا. وعقب ذلك، حازت «كامالا هاريس» نائبته وخليفته المفترضة على ترشيح الحزب الديمقراطي دون منازع، وفي الأسابيع التي تلت ذلك قلصت هاريس الفارق الذي كان بين ترامب وبايدن إلى الحد الذي حدا بالعديد من استطلاعات الرأي لتضعها الآن في المقدمة بعدة نقاط. فذكرت مجلة «الإيكونوميست» أن «تأثير كامالا هاريس» على الانتخابات كان «دراماتيكيًا»، حيث حطمت نائبة الرئيس بالفعل «أرقامًا قياسية في جمع التبرعات وأثارت حماسة القاعدة الديمقراطية».
وكانت شبكة «سي بي إس» قد سجلت تأخر بايدن بخمس نقاط عن ترامب وقت إعلان انسحابه من حملة إعادة ترشحه. ولكن اعتبارًا من 5 أغسطس، أعطت أحدث استطلاعات الرأي التي أجرتها مجلة «الإيكونوميست» هاريس ميزة 3 نقاط على ترامب على المستوى الوطني (48% مقابل 45%)، مما يجعلها أول مرشحة ديمقراطية تقود ترامب منذ أكتوبر 2023.
ويتفق العديد من خبراء استطلاعات الرأي الآخرين على تقدم هاريس الآن. وتمنح مؤسسة «يوجوف» للأبحاث وشبكة «سي بي إس» هاريس تقدمًا بنقطة واحدة على ترامب (50% مقابل 49%)، وتمنح مؤسسة «سيرفي يو إس إيه» وجامعة ماساتشوستس تقدمًا بثلاث نقاط لهاريس (48% مقابل 45% و46% مقابل 43% على التوالي)، بينما منح استطلاع شركة «مورنينج كونسلت» نائبة الرئيس تقدمًا بأربع نقاط (48% مقابل 44%). وعكست متتبعات موقع «ذا هيل» زيادة تأييد هاريس بنسبة 47.5% أعلى من نسب عدم تأييدها 46.4%. وبالمقارنة، فإن إحصائية عدم تفضيل ترامب البالغة 51.7% أعلى بكثير من تصنيف تفضيله البالغ 45.9%. ووصف هذا التحول كل من «دوغلاس إي. شوين، وكارلي كوبرمان» من شركة «شوين كوبرمان» للأبحاث ومقرها نيويورك، بأنه «تحول لا يمكن إنكاره لصالح كامالا هاريس».
ولكن على الرغم من تسجيل هاريس الآن تقدمًا على ترامب في استطلاعات الرأي، إلا أن مجلة «الإيكونوميست» ذكرت أن هذا وحده قد لا يكون كافيًا للفوز بالرئاسة، مستشهدة بكيفية فوز المرشحين الديمقراطيين السابقين (آل جور، وهيلاري كلينتون) باستطلاعات الرأي في أمريكا ومع ذلك أخفقا بالنهاية في الفوز بالانتخابات الرئاسية لعامي 2000 و2016.
وكتب «ويليام إتش. فراي» زميل بارز في مؤسسة بروكينجز، «أن ترشح هاريس قد جاء مباغتًا بشكل لم تتضح معالمه الكلية بعد»، ولكن من المهم التأكيد على أنه مع بقاء أقل من ثلاثة أشهر فقط قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الخامس من نوفمبر، فلا يزال هناك الكثير مما يمكن أن يحدث لتغيير مسارات حملتي ترامب وهاريس.
إن النتيجة النهائية للانتخابات ستتأثر بشكل كبير بـ «الولايات المتأرجحة» – (بنسلفانيا وجورجيا وميشيغان وويسكونسن وأريزونا ونيفادا) – والتي يمكن لناخبيها التصويت إما للديمقراطيين أو الجمهوريين، والتي تمثل مجتمعة 93 من 270 صوتًا في المجمع الانتخابي اللازم لهاريس وترامب للفوز بالبيت الأبيض. فعلى الرغم من فوز الديمقراطيين بالتصويت الشعبي بنسبة 4.5% على مستوى البلاد، إلا أن مجلة «الإيكونوميست» قد أكدت أن التقدم الحالي لهاريس في التصويت الشعبي «سيُكسبها 247 صوتًا انتخابيًا فقط»، وبالتالي أقل من 270 صوتًا مطلوبًا.
وباعتبارها ساحات لمعارك سياسية متنازع عليها بشدة ومع إنفاق كلا الحزبين مئات الملايين من الدولارات على الحملات الانتخابية، فقد أفاد «مارتن بينجيلي» من صحيفة «الجارديان» أن استطلاعات الرأي لهاريس وترامب في الولايات المتأرجحة تُظهر «صورة أكثر اختلاطًا» من استطلاعات الرأي المذكورة أعلاه. وعلى سبيل المثال، ذكرت استطلاعات الرأي لمؤسسة مدعومة من الديمقراطيين أن هاريس تتقدم بنقطة واحدة في جورجيا، في حين أن إحدى الحملات اليمينية المنحازة للجمهوريين قد وضعت ترامب في المقدمة بنقطتين. وكمؤشر على تقليص هاريس للفجوة مع ترامب في ولاية كارولينا الشمالية، سجل مركز «فايف ثيرتي إيت» لاستطلاعات الرأي، «تقدمًا محدودًا» لترامب على هاريس منذ انسحاب بايدن من الترشح عن الحزب الديمقراطي، من 9 نقاط إلى 2 فقط.
ويرى المعلقون السياسيون أن هاريس لا تتمتع بميزة تنامي الدعم فحسب، بل تتمتع أيضًا بميزة من حيث أن التركيبة السكانية للتصويت في الولايات المتحدة قد تكون في صالحها. وبما أن هاريس هي ثاني امرأة تترشح لمنصب الرئيس الأمريكي – وتهدف إلى أن تصبح أول قائدة أعلى للقوات المسلحة، فقد كتب «فراي» عن أن اختيارها كمرشحة ديمقراطية «أشعل بالفعل حماس» الناخبات الأمريكيات. ونظرًا لأن نسبة إقبال الناخبات من النساء الأمريكيات كانت أعلى من نسبة إقبال الرجال في كل انتخابات رئاسية منذ عام 1980، ولأن النساء أكثر ميلاً للتصويت للمرشحين الديمقراطيين في الولايات المتأرجحة الرئيسية، فقد أكد فراي على أهمية تلك «التحولات» التي قد تفيد ترشيح هاريس بشكل كبير.
كما تُظهر بيانات استطلاعات الرأي لـ«رويترز» و«إيبسوس» أيضًا أن هاريس المرشحة الأكثر جاذبية من بايدن بالنسبة للناخبين الأمريكيين من أصل أفريقي (بنسبة تأييد 70% مقارنة بـ59% لبايدن). في الولايات المتأرجحة المذكورة أعلاه، وأُشير أيضًا أن هاريس تتقدم بنسبة 20 نقطة مئوية على ترامب بين الناخبين من أصل إسباني.
ومع تركيز الخبراء على نتائج «الولايات المتأرجحة» تلك والتي من المرجح أن تحدد نتيجة الانتخابات بسبب نظام الهيئة الانتخابية المستخدم في الولايات المتحدة، تم إيلاء اهتمام خاص لمحاولات الديمقراطيين والجمهوريين جذب قاعدة انتخابية أخرى مؤثرة بشكل كبير وهم الناخبون العرب الأمريكيون. فهناك ما يقدر بنحو 3.7 ملايين عربي أمريكي يعيشون في الولايات المتحدة؛ وتتركز أعداد هائلة منهم في الولايات المتأرجحة (ميشيغان وفلوريدا وفيرجينيا وبنسلفانيا).
وتُظهِر بيانات استطلاعات الرأي أن هؤلاء الناخبين العرب يضعون مستقبل السياسة الأمريكية تجاه الحرب في غزة كأولوية، فعلى الرغم من فوز بايدن بأصوات ما يقرب من 60% منهم في عام 2020، إلا أن قراراته أثناء حرب إسرائيل في غزة بالوقوف إلى جانب حكومة «بنيامين نتنياهو» اليمينية المتطرفة، والتي تسببت في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وفشل إدارته في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، ألحق ذلك أضرارًا بصورته وبقدرة هاريس على استعادة هذه الأصوات.
فقد أكد المعهد العربي الأمريكي في مايو 2024، أن الدعم لسياسات بايدن في الشرق الأوسط قد تهاوت إلى أقل من 20% بين العرب الأمريكيين، وأشار المعهد أن هذا بدوره سيفقد الديمقراطيون 177 ألف من الأصوات في جميع تلك الولايات.
ولم يكن موقف بايدن تجاه الحرب في غزة وإسرائيل مؤثرًا على الأمريكيين من أصل عربي فحسب؛ حيث أظهر أحدث استطلاع للرأي من مؤسسة جالوب أن ما يقرب من نصف الأمريكيين بنسبة (48%) قد أصبحوا لا يوافقون على سلوكيات إسرائيل. وفي ضوء ذلك، أشارت «جلين ألتشولر» أستاذ الدراسات الأمريكية في جامعة كورنيل، أن هاريس كمرشحة ديمقراطية قد تتبنى «نهجًا مختلفًا» عن نهج بايدن في هذا الصدد؛ حيث أنها أول شخصية رفيعة المستوى في إدارة البيت الأبيض تدعم علناً وقف الحرب، وأظهرت أنها كانت أكثر صرامة من بايدن عندما التقت «بنيامين نتنياهو» في واشنطن أواخر يوليو الماضي، مؤكدة على الحاجة إلى السلام طويل الأمد وإتاحة الإغاثة الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين. وخلافًا لموقف هاريس، أشار «إسحاق شوتينر» من مجلة ذا نيويوركر الأمريكية، إلى موقف ترامب ودعمه الصاخب لإسرائيل، ناهيك عن تاريخ من التصريحات المتعصبة تجاه المسلمين.
على العموم، تشير بيانات استطلاعات الرأي المتاحة منذ أن حلت هاريس محل بايدن في بطاقة الترشح للانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم إلى أنه هناك دعم كبير للحزب الديمقراطي حاليًا. وقد أكدت «تاتيش نتيتا» بجامعة ماساتشوستس بمدينة أمهرست الأمريكية، أن هذا التحول في الدعم وتقدمها بفارق سبع نقاط مئوية عن ترامب قد أثبت أن منتقدي بايدن كانوا «على حق» في المطالبة بانسحابه، وأن هاريس والقيادة الديمقراطية يجب أن «يستمتعا الآن بفرصهما في الحفاظ على السيطرة على البيت الأبيض».
ومع ذلك، اعترفت «تاتيش» بأنه لا يزال هناك «ثلاثة أشهر» قبل أن يتوجه حوالي 160 مليون أمريكي إلى صناديق الاقتراع، كما أشارت مجلة «الإيكونوميست البريطانية» إلى “اتفاق معظم علماء السياسة على أن الناخبين لا يهتمون كثيرًا بالحملات الانتخابية حتى المراحل النهائية من السباق»، وأنه حتى ذلك الحين، ستميل بيانات استطلاعات الرأي «إلى الاستجابة للتغطية الإعلامية» قبل «وضوح ملامح النتائج النهائية مع اقتراب حسم الانتخابات الرئاسية». وإن إحدى القضايا التي ستظل ذات أهمية هي وضع الناخبين العرب والمقيمين بأمريكا، الذين قد يثبتوا أن أصواتهم في الولايات المتأرجحة الرئيسية -مثل ميشيغان وبنسلفانيا – ستكون مؤثرة للغاية في النتيجة النهائية للانتخابات الأمريكية. وبالتالي، فإن السياسات التي طرحتها هاريس لإنهاء الحرب في غزة وممارسة الضغط على حكومة إسرائيل، ستكون محور اهتمام ما تبقى من حملتها الانتخابية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك