سيذكر التاريخ أن العرب والفلسطينيين قد اختاروا السلام مع إسرائيل كتوجه استراتيجي، وقدموا تنازلاً تاريخيًا هائلاً بقبولهم لوجودها والتعايش معها، على أساس حق تقرير المصير للفلسطينيين وحقهم الثابت في إقامة دولتهم المستقلة وحقوقهم المشروعة.
بل تجاوز العرب والفلسطينيون حقهم التاريخي في الأرض بموجب قرار 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 بمنح الفلسطينيين 42% من أرض فلسطين التاريخية لإقامة دولتهم، واكتفوا اليوم بالمطالبة بالأراضي العربية المحتلة في يونيو 1967 وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي تمثل فقط 21% من فلسطين.
فماذا حدث رغم كل ذلك؟! منذ إبرام اتفاقية أوسلو للسلام في 1993 استمرت إسرائيل في بناء المستعمرات من دون هوادة في القدس الشرقية والضفة الغربية، وبلغت مساحة الأراضي التي أقيمت عليها المستعمرات الإسرائيلية والثكنات العسكرية لحمايتها وطرقها الالتفافية والجدار العازل 1864 كم، أي أن إسرائيل قد التهمت 44% من مجموع مساحة الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، فباتت تفرض اليوم بذلك أمرا واقعا جديدا يطيح بحلمهم في قيام دولتهم.
وبعد كل ذلك يبدو أن إسرائيل لا تكتفى بأراضي الفلسطينيين ولا أرواحهم ودمائهم، بل باتت أيضًا ترفض اليوم جهارًا نهارًا حل الدولتين رفضًا نهائيًا، دافعة الأمور في منطقة الشرق الأوسط إلى حافة الهاوية وتأجيج الصراع والحرب، غير مدركة أنها بذلك كمن يلعب بالنار في مستودع للوقود.
باتت إسرائيل اليوم دولة مقيتة ومنبوذة من الغالبية العظمى من دول العالم وشعوبها، التي روعتها الجرائم الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، وشبه الكثيرون أفعال إسرائيل بما فعله المستوطنون الأوروبيون في أمريكا الشمالية عندما انتهجوا إبادة السكان الأصليين وأفنوهم عن آخرهم، لدرجة أنه لم يبقَ منهم اليوم في كندا والولايات المتحدة سوى عدة آلاف يعيشون في معازل نائية موحشة، بعد أن كانت القارة الأمريكية بأكملها ملكًا لهم.
وحتى في الولايات المتحدة، حيث يحكم اللوبي الصهيوني قبضته على الشركات والهيئات والجامعات والمؤسسات المالية والإعلامية الكبرى، خرج طلاب وطالبات وأساتذة الجامعات في احتجاجات واعتصامات غير مسبوقة متحدين التهديدات بفصلهم من كلياتهم لينددوا بالجرائم الإسرائيلية، وبالمثل كان الأمر في معظم الجامعات الأوروبية والعالمية للتنديد بقتل 40 ألفا وإصابة وإعاقة 150 ألفا من الفلسطينيين الأبرياء وتدمير 90% من قطاع غزة.
إن عددًا كبيرًا من الشخصيات اليهودية الأمريكية من السياسيين والأكاديميين مثل نعوم تشومسكي وجون ميرشايمر وبيرني ساندرز وغيرهم وقفوا موقفًا مشهودًا وأعلنوا رفضهم للممارسات الإسرائيلية وتبرأوا منها كيهود أمريكيين، وفى هوليوود وقف العديد من الفنانين والمبدعين موقفًا شجاعًا حين انتقدوا أفعال وجرائم إسرائيل، رغم أن إبداء هذا الرأي هناك كفيل بالإطاحة بهم وبمستقبلهم.
لكن ما صدم العالم في الآونة الأخيرة رغم كل ما سبق، هو ظهور جريمة جديدة من جرائم الكيان الصهيوني، إذ لم يكتف الكيان بعشرات السجون المنتشرة على أرض فلسطين لاحتجاز وسجن عشرات الآلاف من الأسرى والأسيرات والأطفال من أهل فلسطين وتعذيبهم في ظروف مروعة، إذ إنه بالإضافة إلى معسكري اعتقال أناتوت وعوفر، أضاف إليهما الكيان معسكر اعتقال سدى تيمان.
ما تسرب من أنباء عن هذا المعسكر تحديدًا تم وصفه بأنه لا يقل وحشية وفظاعة عن معسكرات الاعتقال النازية المزعومة في أوشفيتز وداخاو وبيلزيك وسوبيبور وتريبلينكا، وهي المعسكرات التي طالما أقامت عليها إسرائيل أسطورة الهولوكوست التي استطاعت بها أن تبتز العديد من الدول مثل ألمانيا التي دفعت لإسرائيل أكثر من 300 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية المستمرة إلى اليوم.
معسكر اعتقال سدى تيمان على أرض فلسطين هو النسخة المعاصرة لمعسكر أوشفيتز، بل هو أفظع وأكثر دموية حيث تمارس فيه أقسى أساليب التعذيب والضرب والصعق بالكهرباء والاغتصاب وتسليط الكلاب المتوحشة وتعطيش المعتقلين وتجويعهم ومنع الأدوية، فضلًا عن التبول عليهم وإهانتهم بكل الطرق والأساليب الوحشية.
هذا المعتقل تديره إحدى وحدات الجيش الإسرائيلي بموجب قانون المقاتلين غير الشرعيين، الذي يجيز لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي اتخاذ قرار بتنفيذ اعتقالات إدارية واسعة دون الحق بالاستئناف أو المرافعة القانونية، واعتبارًا للطبيعة الخاصة لذلك المعتقل لا يسمح لممثلي منظمات حقوق الإنسان أو العفو الدولية أو الصليب الأحمر بزيارته.
وبعد تسرب الأنباء المفجعة للعالم عما يجرى في المعتقل، وقيام العديد من الجهات والمنظمات بالمطالبة بالتحقيق فيما يجرى فيه من فظائع مروعة، دعت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بمسألة التعذيب إسرائيل إلى التحقيق في الأمر، ولامتصاص الغضب الدولي، أعلن المدعى العام الإسرائيلي أنه سيتم تدريجيا التوقف عن استخدام معسكر الاعتقال سدى تيمان.
ثم أعلنت إسرائيل في خطوة تالية أنها بصدد فتح تحقيق في الأمر، ويأتي ذلك تحسينًا لصورتها، وللالتفاف على أي إجراءات قضائية دولية قد تتخذ ضدها في هذا الشأن في محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.
ومع انكشاف المزيد من الأنباء، كان لا بد من الإعداد العاجل لمسرحية بأن الكيان الصهيوني يقوم على القانون والعدالة، فأصدر الجيش الإسرائيلي بيانا بأنه فتح تحقيقا موسعا في مقتل 48 معتقلا فلسطينيا بالمعتقل، وأعلنت الشرطة العسكرية الإسرائيلية أنها ستوقف 10 جنود من معسكر سدى تيمان للتحقيق معهم في أعمال تعذيب قاموا بها.
على أثر ذلك اقتحم محتجون إسرائيليون معسكر سدى تيمان بعد التحقيق مع الجنود، وعبرت شخصيات حكومية وبرلمانية إسرائيلية عن تضامنها مع الجنود الضالعين في التعذيب، بينما توجه العديد من أعضاء الكنيست إلى المعسكر تعبيرًا عن دعمهم للجنود السجانين.
رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست أعلن أن الجنود داخل المعتقل ليسوا بمجرمين وهذه الملاحقة الحقيرة لجنودنا غير مقبولة، بينما أعلن وزير الأمن الإسرائيلي أن مشهد وصول عناصر الشرطة العسكرية لاعتقال الجنود الأبطال في معسكر سدى تيمان بالنقب هو أمر مخجل.
إذن فهذا هو الوجه الحقيقي لهؤلاء المجرمين سواء كانوا سياسيين أو مسئولين أو سجانين، وهو جانب من صورة الكيان التي انكشفت حقيقتها للعالم، ومثلما قامت يومًا محكمة نورنبرج في ألمانيا، ستقوم يومًا محكمة لمجرمي الكيان الصهيوني الذين تحللوا من كل الالتزامات والقواعد والقيم والأخلاق.
{ أستاذ وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك