في مارس 2024 أثار تصريح النائب الجمهوري بالكونجرس الأمريكي (تيم والبيرغ) الذي أقترح إسقاط قنبلة نووية على غزة لإنهاء الحرب، كما حدث في مدينتَي هيروشيما وناجازاكي في اليابان، جدلاً واسعًا، ليس على نطاق أمريكا وحدها وإنما امتدت كل تلك المجادلات حول العالم لتعيد إلى العالم الصورة البشعة للإبادة الجماعية التي مارستها الولايات المتحدة لإنهاء الحرب العالمية الثانية وذلك بإلقاء قنابل نووية على هيروشيما وناجازاكي، ترى ماذا حدث بالتحديد؟
تقول المصادر التاريخية إنه في نهاية الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في أغسطس 1945 قامت الولايات المتحدة بقصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي باستخدام قنابل ذرية؛ وذلك بسبب رفض اليابان تنفيذ إعلان مؤتمر بوتسدام وكان نصُّه (أن تستسلم اليابان استسلامًا كاملاً بدون أي شروط).
إلَّا أنَّ رئيس الوزراء الياباني آنذاك (سوزوكي) رفض هذه المعاهدة وتجاهل المهلة التي حدَّدها إعلان بوتسدام، وبموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس (هاري ترومان) قامت الولايات المتحدة بإطلاق السلاح الذري الذي عرف (بالولد الصغير) على مدينة هيروشيما وذلك في 6 أغسطس عام 1945م، ثمَّ تلاها بعدة أيام إطلاق قنبلة (الرجل البدين) على مدينة ناجازاكي وذلك في 9 أغسطس، وكانت هذه الهجمات هي الوحيدة التي تمَّت باستخدام الأسلحة الذرية في تاريخ الحرب.
وتشير المصادر إلى أنه قتل ما لا يقل عن 140 ألف شخص في هيروشيما، ونحو 80 ألف شخص في ناجازاكي بحلول نهاية سنة 1945، وتبين أنه مات ما يقرب من نصف هذا الرقم في اليوم نفسه الذي تمَّت فيه التفجيرات والتصفية، ومن بين هؤلاء مات من 15 إلى 20% متأثرين بالجروح أو بسبب آثار الحروق، والصدمات، والحروق الإشعاعية، يضاعفها الأمراض، وسوء التغذية والتسمم الإشعاعي. ومنذ ذلك الحين –كما تشير التقارير– توفي عدد كبير بسبب سرطان الدم (حوالي 231 حالة) والسرطانات الصلبة (حوالي 334 حالة) التي تأتي عادة نتيجة التعرُّض للإشعاعات المنبثقة من القنابل. ومن الجدير بالذكر ان معظم الوفيَّات كانت بين المدنيين في المدينتين.
وبعد ستة أيام من تفجير القنبلة على ناجازاكي، أي في 15 أغسطس، أعلنت اليابان استسلامها لقوات الحلفاء، حيث وقعت وثيقة الاستسلام في 2 سبتمبر، ممّا أنهى الحرب في المحيط الهادئ رسميًا، ومن ثمَّ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما وقعت ألمانيا وثيقة الاستسلام في 7 مايو 1945، ممّا أنهى الحرب في أوروبا، وجعلت التفجيرات اليابان تعتمد المبادئ الثلاثة غير النووية بعد الحرب، والتي تمنع الأمة من التسلُّح النووي.
وسنويًا، تقف اليابان في ذكرى هذه المجزرة الجماعية، لتعيد إلى العالم الوجه القبيح للحضارة الغربية المعاصرة.
الغريب في الموضوع أن الولايات المتحدة لم تقدم اعتذارًا لليابان حتى اليوم عن القصف بالسلاح النووي، بل على العكس فقد رفض عدد من رؤساء الاعتذار، ليس ذلك فحسب بل إن الرئيس بيل كلينتون صرح في 1995 بأن الولايات لا تدين لليابان بأي اعتذار، بينما سبقه الرئيس جورج بوش الأب سنة 1991 بالقول إن القنبلة أنقذت حياة ملايين الأمريكيين وأن قرار الرئيس هاري ترومان لم يكن خاطئًا.
فمن وجهة نظر أمريكية، فإن القصف النووي أجبر اليابان في النهاية للموافقة على الاستسلام غير المشروط، إلا ستكون هناك عملية غزو شاملة لجزر البر الرئيسي لليابان، وفقًا لتقديرات وزارة الدفاع الأمريكية فإن عدد خسائر الأمريكيين كان سيتراوح بين 1.7 الى 3 ملايين بينهم 800 ألف قتيل بينما كان سيقتل ما بين 5 إلى 10 ملايين ياباني.
على الرغم من أن (الجنرال دوايت ايزنهاور) أشار في مذكراته حينما ذكر زيارته التي قام بها لوزير الحرب (هنري ستيمسون) في أواخر يوليو 1945، وبعد ذلك كررها بسنوات في مقابلة مع مجلة نيوزويك في عام 1963 قائلاً إن: «اليابانيين كانوا مستعدين للاستسلام، فلم يكن من الضروري ضربهم بهذا الشيء الفظيع»، إذن لماذا حدثت هذه المجزرة وهذه الإبادة الجماعية؟
اليوم نعرف – كما تشير المصادر التاريخية – أن القصف الجوي الأمريكي للمدن الألمانية واليابانية كانت استراتيجية أمريكية تهدف الى تدمير البنية التحتية الصناعية، وتقليل معنويات الخصم، والتأثير على قدرته على إكمال الحرب. وهذا النوع من القصف يسمى (القصف الاستراتيجي) وطبقته دول كثيرة في حروبها، ولكن أمريكا وبريطانيا توسعوا فيه كثيرًا في الحرب العالمية، ومع عدم وجود ذخيرة موجهة آنذاك لجأت أمريكا الى ما يسمى (بالقصف السجادي)، حيث تأتي موجات من مئات القاصفات لتلقي أطنانا من القنابل على المدن الصناعية، عندما تلقي قنبلة غير موجهة من ارتفاع آلاف الأمتار على مصنع فقد تخطئ بمئات الأمتار، ولكن إذا ألقيت مائة فمن المؤكد أن بعضها سيصيب المصنع.
وتقول بعض التقارير إنه لو كانت أمريكا مهتمة بتحقيق العدالة لكانت ضغطت على اليابان لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب التي ارتكبتها اليابان، ولكن ما حدث كان العكس. ومن الناحية الأخلاقية فإن مجزرة هيروشيما وناجازاكي كانت جريمة واضحة لا تقبل التأويل ولا التبرير، كما أن العديد من المفكرين الأمريكيين يقولون بطريقة غير رسمية ان القصف النووي وعملية السقوط كانا غير ضروريين، وأن الحل كان يكمن في الدبلوماسية.
في كتابه (هيروشيما – حكاية ستة ناجين من كارثة القنبلة الذرية) يقول الصحفي الأمريكي جون هيرسي إنها جريمة بشعة، لم تتوقف عند حدود نوع السلاح المستعمل، أو مسرح الجريمة، بل أوغلت في ذلك باختيار وقتها بدقة عالية لحصد أكبر قدر من الأرواح، الساعة 8:15 صباحًا بتوقيت اليابان، حين يخرج الجميع إلى الشوارع، الأطفال يتجهون نحو مدارسهم، والكبار يتوجهون لأعمالهم، حينها تبدأ عملية الشواء الجماعي في طرق وأزقة هيروشيما.
كانت درجة حراة الانفجار أكثر من 6000 درجة مئوية، وهو مقدار يزيد على درجة سطح الشمس، أما على الأرض فوصلت الحرارة يومها إلى 3000 درجة مئوية، وحصيلة القتلى 140 ألف قتيل بانتهاء السنة التي ألقيت فيها القنبلة، و200 ألف بانتهاء سنة 1950، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رسميًا أن عدد قتلى جنود اليابان كان 3243 عسكريًا فقط.
يواصل الصحفي في وصف المذبحة بتفاصيل لم تنشر، ثم يقول: وبعد أن وقع الحدث، وعاينت البشرية حجم الدمار التي يمكن أن يخلفه استعمال مثل هذا السلاح، كيف كانت ردة فعل الإدارة الأمريكية؟ كانت ردة الفعل الرسمية معبرة عن انتفاخ وانتشاء بما جرى من دون أدنى مستوى من الشعور بالألم أو الندم، لقد قفز الرئيس هاري ترومان حين وصله الخبر ابتهاجًا وهتف إن هذا أعظم حدث في التاريخ.
ثم يقول في مكان آخر من الكتاب ازدادت الأمور سوءًا مع تكشف آثار القنبلة على كثير من الناجين، الذين بدأت تسوء أحوالهم الصحية بشكل غامض ومتسارع، أعراض غريبة، غثيان مزمن، وحرارة مرتفعة، وتقرحات أرجوانية، وشعر يتساقط، ونزيف داخلي؛ بل نزيف من العينين والفم، ليظهر بعد ذلك أنهم مصابون بالتسمم الإشعاعي، وليسهم هذا في اتساع دائرة قتلى الانفجار، فمن لم يمت حرقًا مات موتًا بطيئا بإشعاعات القنبلة المميتة. فكيف كانت ردة الفعل الأمريكية حيال هذا المستجد الجديد؟
كانت ذهنية تسليع الإنسان لا ترى في الأمر إلا فرصة مواتية لدراسة آثار الإشعاع النووي على البشر، لا تعاطف، ولا ندم بتاتا. ولقد أسست أمريكا لجنة ضحايا القنبلة الذرية لا لتقديم العلاج للضحايا، وإنما لوضعهم تحت المراقبة والملاحظة، للتعرف وبشكل تفصيلي على أعراض المرض، كانوا مجرد (فئران تجارب). وقام أحد العلماء المسؤولين عن هذه الدراسة برفع دماغ كان قد استخرج من جثة ياباني للتو، ليعلن بكل برود بالأمس كانت الأرانب، واليوم اليابانيون.
ونطوي صفحات الكلمات، إلا أن الموضوع لم ينته بعد، فالتاريخ شاهد وبدأ يتحدث.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك