خلال الحرب القائمة في غزة والعدوان الإسرائيلي عليها والمستمر منذ عشرة أشهر، اعترت استجابة الولايات المتحدة وإدارتها بقيادة جو بايدن العديد من الإخفاقات الأخلاقية والسياسية. فعلى الرغم من الإدانات واسعة النطاق لسلوك إسرائيل من قبل جماعات حقوق الإنسان، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وملايين المحتجين في جميع أنحاء العالم، وفضلاً عن إطلاق تحقيقات قانونية مباشرة من قبل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية؛ إلا أن إدارة بايدن في واشنطن رفضت اتخاذ أي إجراءات جدية لتوبيخ حكومة إسرائيل، وهو ما أدى إلى اتهام واشنطن بالنفاق وإزدواجية المعايير فيما يتعلق بالقانون الدولي وحماية حقوق الإنسان.
وكتبت إيما آشفورد زميلة بارزة في مركز ستيمسون، أن محاولات الإدارة الأمريكية إمساك العصا من المنتصف -من خلال تقديم الدعم غير المشروط لإسرائيل، مع الدفع في الوقت نفسه بتسوية تفاوضية مع حماس- كان لها تأثير في جعل الأمور تزداد سوءًا. والواقع أن واشنطن، بدلاً من تجاهل بنيامين نتنياهو كما فعلت مع مجرمي حرب آخرين، فقد رحبت به ليلقى خطابًا أمام الكونجرس الأمريكي في أواخر يوليو 2024، وبالتالي لم تترك للمراقبين أدنى شك في ولاء الإدارة الأمريكية.
إن موقف إدارة بايدن المتمثل في الاستمرار في دعم إسرائيل بالوسائل الاقتصادية، ومواصلة شحن الذخائر، والحماية الدبلوماسية من المساءلة الدولية؛ وضع العديد من الموظفين والمسؤولين داخل وزارة الخارجية الأمريكية في موقف أضحى معه من الصعب عليهم الاستمرار ومحاولة إحداث تأثير إيجابي. وعندما لم يتطرق كبار قادة الوزارة بما في ذلك أنتوني بلينكن وزير الخارجية إلى مخاوفهم إزاء السياسة الأمريكية، ومع عدم تغيير واشنطن نهجها ردًا على مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين؛ اختار العديد من المسؤولين الاستقالة والتعبير علنًا عن إداناتهم.
ومن بين هؤلاء هالة راريت التي استقالت من الخارجية في أبريل 2024 بعد 18 عامًا من تمثيل الولايات المتحدة دبلوماسيًا، وأنيل شيلين التي استقالت من مكتب شؤون الشرق الأوسط بالخارجية قبل شهر، وهي باحثة في معهد كوينسي للحكم المسؤول.
وفي مقال نشرته مجلة فورين بوليسي أكدت راريت وشيلين أن فشل القيادة الأمريكية يسمح بانتشار ألسنة اللهب مما يهدد بالتصعيد الإقليمي، واتهمتا بشكل مباشر كبار المسؤولين في وزارة الخارجية، بما في ذلك بلينكن، بتجاهل التحولات الأساسية التي تحدث في المنطقة نتيجة للدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل.
وعقب العديد من الانتقادات لفشل بايدن في كبح جماح تجاوزات حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، كتبت باربرا سلافين من مركز ستيمسون، أن رد واشنطن على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية في نهاية يوليو، سيكون من خلال محاولة الحيلولة دون انفجار المنطقة بدلاً من اتخاذ تدابير استباقية لمنع إسرائيل من التصعيد في المقام الأول. ورأت راريت وشيلين أن نتنياهو يريد على ما يبدو حربًا مع إيران كجزء من شرق أوسط مستعر إلى الأبد؛ والذي سيمكنه من إنهاء جريمة التطهير العرقي في غزة وضم الضفة الغربية. وأوضحت المسؤولتان السابقتان أن الاستقبال الذي تلقاه من المسؤولين الأمريكيين خلال زيارته للكونجرس جعله أكثر جرأة على تحقيق هذا الهدف، لتأكده من دعم الولايات المتحدة له. ونتيجة لذلك، فإن إدارة بايدن سمحت لزعيم أجنبي متطرف بتحديد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنزلق إلى حرب كارثية أخرى.
وجاء رد واشنطن على تلك الممارسات والانتهاكات الإسرائيلية من خلال تصريح بلينكين الذي حث فيه على عدم تصعيد أحد لهذا الصراع، وبالتالي وضعت واشنطن مسؤولية التصعيد على إيران وليس على إسرائيل التي بادرت بالهجوم، ليُظهر موقفها محاولاتها لتبرئة الحكومة والجيش الإسرائيليين من المسؤولية بغض النظر عن مدى وضوح انتهاكاتهم للقانون الدولي لبقية العالم.
ورأت راريت وشيلين أن البيت الأبيض تصرف بطريقة مرتعدة وجبانة؛ والتي جعلت إدارة بايدن غير مأخوذة على محمل الجد في نظر نتنياهو فهي غير قادرة على وقف طموحاته لتدمير غزة وبقية الأراضي الفلسطينية، وأكد ذلك جيريمي كونينديك رئيس المنظمة الدولية للاجئين، حيث أظهر بايدن للزعيم الإسرائيلي عدم موافقته على الانتهاكات في غزة لكنه لن يفرض عليه أي عقوبات، ولن يتخذ أي إجراءات جادة ضده
وأشار فرانك لوينشتاين المبعوث الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في عهد باراك أوباما، إلى أن تصرفات نتنياهو وضعت الولايات المتحدة في موقف حرج، بينما تساءلت راريت وشيلين حول مدى تورط واشنطن في حالات التصعيد والعمليات العدوانية الإسرائيلية في جميع أنحاء المنطقة؛ حيث إنه على الرغم من ادعاءات بلينكن بأن واشنطن لم تكن على علم أو حتى متورطة في اغتيال هنية في طهران، إلا أن المستوى العالي من التعاون، وخاصة في تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين من شأنه أن يشير إلى أن البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية على الأقل تغاضا عن هذا الاغتيال، إن لم يكونا مشاركين نشطين في تنفيذه على أرض الواقع.
وعلاوة على ذلك، شكلت قضية استخدام الأسلحة المصنوعة في الولايات المتحدة ضد المدنيين الفلسطينيين سببًا رئيسيًا لاستقالة مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية وإدانتهم لحكومتهم منذ بدء إسرائيل حربها على غزة. ورغم اعتراف وزارة الخارجية بأن استخدام إسرائيل لذخائر أمريكية الصنع أدى لقتل المدنيين الفلسطينيين في غزة، إلا أن الوزارة وافقت في أغسطس 2024 على إرسال المزيد من الأصول العسكرية بقيمة 3.5 مليارات دولار إلى إسرائيل.
وبعد أيام قليلة من بدء الحرب، استقال جوش بول من إدارة مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية؛ احتجاجًا على القرار المدمر والظالم والمتناقض بإرسال مزيد من الذخائر إلى إسرائيل دون إشراف على استخدامها. وبعد استقالته، انتقدت شيلين الإدارة الأمريكية وأكدت على أنها لا تظهر أي رغبة في حجب الأسلحة الهجومية عن إسرائيل من أجل إجبارها على ضبط النفس بشكل أكبر.
كما أشارت راريت وشيلين إلا أن بعض المسؤولين في وزارة الخارجية قد حذروا الإدارة الأمريكية منذ أشهر من أن دعمها غير المشروط لحرب إسرائيل في غزة ما هو إلا قرار مفلس أخلاقيًا، ويتناقض بشكل مباشر مع المصالح الأمريكية في المنطقة، لكن أصواتًا مثل أصواتهم تم تهميشها وإسكاتها عمدًا وبشكل متكرر، بالإضافة إلى إقدام الوزارة بـ اتخاذ قرارات خاطئة وخطيرة من أعلى مستوياتها بهدف الانصياع لسياسات الحكومة الأمريكية وإلا التعرض لعواقب مهنية لا يحمد عقباها.
وكان تقديم استقالات أولئك الذين رفضوا الانصياع لدعم إدارة بايدن المستمر لإسرائيل، وتهميش أصواتهم المحذرة من عواقب هذا له دور في تسليط الضوء على الإخفاقات غير الأخلاقية في نهج السياسة الأمريكية الراهنة. فلقد استقالت ستايسي جيلبرت في مايو 2024 والتي عملت كمسؤولة في وزارة الخارجية لمدة 20 عامًا، مشيرة إلى أن الاستنتاجات التي توصل إليها المسؤولون الأمريكيون بأن إسرائيل لم تمنع المساعدات الإنسانية عن غزة كاذبة بشكل واضح. كما أوضح ألكسندر سميث بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، أنه لا يستطيع الاستمرار في العمل في عالم - في إشارة إلى المدنيين الفلسطينيين - لا يمكن الاعتراف فيه أن هناك بشر يجب أن تنطبق عليهم مبادئ النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان كغيرهم.
ونتيجة لهذه الإخفاقات الخطيرة من جانب وزارة الخارجية الأمريكية، أشار نيكولاس كريستوف بصحيفة نيويورك تايمز، أن دعم الإدارة الأمريكية لحرب نتنياهو والتصعيد في جميع أنحاء الشرق الأوسط جعل ادعاءات الولايات المتحدة بقيادة نظام دولي قائم على القواعد أمر أشبه بالـ مهزلة، وأكدت راريت وشيلين أن وقوف تلك الإدارة مكتوفة الأيدي وسط انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان قد دمر مصداقية الولايات المتحدة كجهة فاعلة إنسانيا.
ونظرًا إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية هي القناة الدبلوماسية الرسمية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فقد أكدت راريت وشيلين أن تدمير المصداقية سيؤثر بشكل ضار على طبيعة عمل الوزارة وسلامة موظفيها في المنطقة على المدى الأبعد. بينم تساءل مسؤولون سابقون بالوزارة حول تصور بايدن وبلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ومنسق شؤون الشرق الأوسط بريت ماكجورك أنهم لازالوا قادرين على مواصلة الدعم غير المشروط لحرب إسرائيل دون إلحاق ضرر لا رجعة فيه بسمعة الولايات المتحدة وسلطتها بين شركائها العرب.
على العموم، إن التداعيات الدبلوماسية طويلة الأمد الناجمة عن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل خلال حربها ضد غزة قد تكون أسوأ بكثير من أي شيء رأيناه في التاريخ الحديث، بما في ذلك من الحرب العالمية على الإرهاب والغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، وفي هذا الصدد أوضحت راريت وشيلين - بصفتهما من دعاة الدبلوماسية والاستقرار في المنطقة- أن مثل هذه السياسات والإجراءات ليست في مصلحة الولايات المتحدة وشعبها.
ومع دخول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض في يناير 2025، من الواضح أن التحول في موقف الولايات المتحدة بشأن الحرب في غزة مطلوب بشكل عاجل، وفي حالة نجاح كامالا هاريس في خلافة بايدن كرئيسة ديمقراطية، سيظل هناك وفقا لما ذكرته راريت وشيلين عدد كبير جدًا من المسؤولين داخل الإدارة الأمريكية الذين يرون أن سياسات واشنطن تجاه إسرائيل والفلسطينيين خاطئة وغير قانونية. ولكن اعتمدت هاريس لغة أكثر صرامة في انتقاد إسرائيل، وهو ما أثار الآمال في تحولات سياسية قد لا تتفق مع رغبات نتنياهو. ومن الواضح أن التغييرات مطلوبة أيضًا داخل القطاع الدبلوماسي في الإدارة الأمريكية، من خلال صناع قرار قادرين بشكل أكبر على تنفيذ التوصيات المقدمة لهم من قبل الخبراء في المنطقة وحقوق الإنسان والقانون الدولي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك