نَشرتْ مجلة «الإيكونُومِستْ» الشهيرة المعنية بالشأن الاقتصادي مقالاً في 12 أغسطس 2024 تحت عنوان: «أمريكا تستعد لسباق جديد للأسلحة النووية»، حيث جاء في المقال أن الولايات المتحدة بدأت في إنتاج وتخزين مختلف أنواع الأسلحة النووية من قنابل ذرية تُحمل في الطائرات، أو صواريخ ذات رؤوس نووية أرضية، أو صواريخ نووية بحرية محملة في الغواصات. كما أفاد المقال بأن هذا الاقدام المتسارع والكبير على إنتاج الأسلحة النووية جاء بسبب حرب روسيا مع أوكرانيا وتهديدها باستخدام السلاح النووي، ونية الصين إلى الدخول في حرب مع تايوان وسرعة إنتاجها وتخزينها للأسلحة النووية، إضافة إلى الترسانة النووية المتراكمة في كوريا الشمالية ومحاولات إيران لامتلاك السلاح النووي.
وفي تقديري، فإن عنوان مقال الإيكونومست يضلل القارئ ولا يقدم المعلومات الواقعية الدقيقة، فهو يشير إلى أن أمريكا تستعد لسباق جديد للأسلحة النووية وكأنها توقفت يوماً ما في إنتاج وتطوير أنواع جديدة وحديثة من السلاح النووي في تاريخها الطويل الذي بدأ بمشروع منهاتن المعروف، الذي تمخض عنه القنبلة الذرية التي أُلقيت عام 1945 على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان. فمنذ ذلك التاريخ وأمريكا في حالة استعداد ونفور دائمين، فلم تغفل ولو ساعة عن تطوير أسلحة الدمار الشامل بجميع أنواعها وشدتها، ولم تتجاهل ولو دقيقة عن تحقيق هدفها الرئيس وهو بلوغ التفوق العسكري النووي والتقليدي من الناحيتين النوعية والعددية على كل دول العالم. فهي كانت ومازالت وستستمر في القيام بهذه البرامج العسكرية النووية والتقليدية من خلال تطويرها للأسلحة النووية من جهة، وبدون أن تواجه أي عوائق أو ضوابط، ومن جهة أخرى تعمل بكل الوسائل والطرق الشرعية وغير الشرعية ومن خلال وسيلة «شرطة» منظمات الأمم المتحدة، وأداة الاتفاقيات والمعاهدات الأممية الخاصة بالانتشار والتسليح النووي على منع كل دول العالم من الدخول في المجال النووي، أو حتى الاقتراب منه، سواء أكان المجال النووي العسكري بشكل خاص، أو حتى السلمي في الكثير من الحالات، فهذه المجالات حلال عليهم وحرام على الآخرين.
وقد أكد على ذلك «براناي فادي» (Pranay Vaddi) «المساعد الخاص للرئيس والمدير الأول لشؤون الحد من الأسلحة ونزع السلاح ومنع الانتشار النووي في مجلس الأمن القومي» في المحاضرة التي ألقاها في 7 يونيو 2024 في العاصمة واشنطن «دي سي» في اللقاء السنوي لجمعية «الحد من الأسلحة» (Arms Control Association )، تحت عنوان: «تكييف المدخل الأمريكي في مجال الحد من الأسلحة ومنع انتشار الأسلحة إلى عصر جديد». فقد قال هذا المسؤول النووي الأمريكي إن أمريكا ركزت على هدف مركزي منذ عقود طويلة وهو الحد من مخاطر نشوب صراع نووي كارثي، كما قال إننا ملتزمون بتحقيق السلام والأمن في عالم خال من الأسلحة النووية، إضافة إلى الحاجة إلى الحد من تراكم وانتشار الأسلحة النووية. وأضاف أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتجاهل قوتها العسكرية، فيجب أن نبقى أقوياء. وقال روسيا والصين وكوريا الشمالية تتوسع وتُنوع ترسانتها النووية بدون أن تبدي أي رغبة في الحد من الأسلحة، إضافة إلى إيران، فجميعها تتعاون وتنسق مع بعضها البعض بحيث أنها تزعزع السلام والاستقرار وتهدد الولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا. كذلك أكد في المحاضرة على أن المرحلة، أو العصر النووي الجديد يتمحور على ثلاثة أعمدة، حسب المنشور في وثيقة الرئيس بايدن تحت عنوان: «إرشادات توظيف الأسلحة النووية» (Nuclear Weapons Employment Guidance). وهذه الوثيقة هي النسخة الأخيرة بعد الوثيقة التي أصدرها الرئيس السابق ترامب في 30 نوفمبر 2020، وأُطلق عليها بتقرير 491.
ولذلك سعي الولايات المتحدة الأمريكية لم ينقطع، ولم يتوقف أبداً، وتعمل جاهدة ليلاً نهاراً وبشكلٍ دائم على أن تكون في المرتبة الأولى في السباق النووي، وتريد أن تحافظ على الصدارة والتفوق منذ الأربعينيات من القرن المنصرم وأن تحتكر المركز الأول لها فقط وبدون منازع، وتحاول في الوقت نفسه خفض عدد اللاعبين في سباق النخبة المخصص للكبار. فهذا التفوق النووي العسكري أداة للهيمنة على الدولة والسيطرة عليها أمنياً وسياسياً، ووسيلة للابتزاز والسيادة على القرار السياسي للدول الأخرى، وبهذا التفوق تعمل على نهب وسرقة ثروات وخيرات الدول التي لا تمتلك مثل هذه القوة.
فقد نشر مركز «ستيمسن» (Stimson) تقريراً في 7 أغسطس 2024 تحت عنوان: «مستنقع الأسلحة النووية الأمريكية»، حيث قدَّر التقرير إنفاق الولايات المتحدة على برنامج وترسانة الأسلحة النووية، سواء من ناحية تحديث الأسلحة القديمة، أو من ناحية جيل جديد متطور من هذه الأسلحة، بمبلغ خيالي غير مسبوق في تاريخ أمريكا وهو 1.7 تريليون دولار خلال الثلاثين سنة القادمة. كما جاء في تقرير «اتحاد علماء أمريكا» السنوي حول تطورات الأسلحة النووية تحت عنوان: «ترسانة الأسلحة النووية الأمريكية: 2024» والمنشور في 7 مايو 2024، بأن مكتب الميزانية بالكونجرس قدَّر بأن أمريكا ستُنفق نحو 756 بليون دولار على تحديث وتطوير برامج الأسلحة النووية في الفترة من 2023 إلى 2032، أي معدل 75 بليون دولار سنوياً. كذلك فإن ميزانية وزارة الدفاع لعام 2025 تبلغ 850 بليون دولار، منها 69 بليون دولار للإنفاق على مشاريع وتشغيل الأسلحة النووية.
وفي المقابل هناك العديد من التقارير الأمريكية وغير الأمريكية التي تُعطي تقديرات حول نوعية وكمية الأسلحة النووية التي تمتلكها أمريكا، منها المقال المنشور من «جمعية الحد من الأسلحة» تحت عنوان: «هل الولايات المتحدة تحتاج إلى أسلحة نووية أكثر؟» في العدد الصادر في يوليو/أغسطس 2024، كذلك التقرير المنشور في 13 أغسطس 2024 من (The Cipher Brief) تحت عنوان «الولايات المتحدة تبني أسلحة نووية جديدة بحجة التحكم في الأسلحة»، إضافة إلى التقرير المنشور في 12 يونيو 2023 من «معهد أستوكهولم الدولي لأبحاث السلام» تحت عنوان: «الدول تستثمر في الترسانة النووية بعد تدهور العلاقات الجيوسياسية». فكل هذه التقارير تفيد بأن أمريكا تمتلك العدد الأكبر على المستوى الدولي من الأسلحة النووية والتي تُقدر بنحو 3700 سلاح نووي، منها قنابل الجاذبية، ومنها الرؤوس النووية للصواريخ البرية والبحرية قصيرة وطويلة المدى والتي تصل إلى قرابة 1670 رأساً نووياً. فعلى سبيل المثال، تمتلك عدداً من قنابل الجاذبية العظيمة(B83) وقوتها 1.2 ميجا طن، وهي أقوى من قنبلة هيروشيما بأكثر من 80 مرة. وهذا النوع سيحال إلى التقاعد لارتفاع كلفة الصيانة وستستبدل بقنابل (B61-13) التي قوتها 360 كيلوطن. كذلك هناك الرؤوس النووية من نوع(W93) و (W76-2) التي قوة كل واحد منه 5 كيلوطن، أو نحو نصف القوة التدميرية لقنبلة هيروشيما.
فهذا السباق للتسلح النووي بشكلٍ خاص بين الدول الكبار قديم منذ أيام ما قبل الحرب العالمية، ثم تحول بعد الحرب العقيمة إلى حربٍ باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وتنافسٍ على تحقيق السبق والتفوق النووي العسكري. واليوم هذه الحرب الباردة بدأت من جديد، والسباق يحتدم للتفوق النووي النوعي والكمي، ولكن اليوم زاد عدد المتسابقين في الملعب، فدخلت الصين وكوريا الشمالية في السباق. وأما الدول الأخرى، وبالتحديد الدول الفقيرة والضعيفة والنامية فستبقى دائماً كما كانت خارج السباق، وتتفرج على النتائج عن بعد، حيث أقنعت أمريكا بعض هذه الدول أنها لا تحتاج أبداً إلى هذا النوع من السلاح، ويكفي أن تدخل معها في اتفاقيات ثنائية لحمايتها والدفاع عنها.
وهذا السباق النووي النخبوي بين هذه الدول المتقدمة الكبيرة يجب أن يتوقف كلياً، فهو سباق نحو الموت والدمار ويهدد مباشرة الأمن والسلم الدوليين، وهو سباق عقيم يضع كوكبنا على شفا حفرة من التدمير الشامل من هذه القوى النووية الشريرة، وهو سباق نحو الإنفاق على الشر بدلاً من الخير، والإنفاق على الفساد بدلاً من البناء والإعمار.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك