تسعون، واحد وتسعون، اثنان وتسعون... مائة. عددت الكثير من الأرقام أثناء مشوار الهروب اليومي يا «هيلدا» لكن الأمر لم يُفلح، عدت إلى المنزل مرهقةٌ من العد والمشي والبكاء.
كنت أكرر الأرقام بترتيبٍ وانتباه «حتى لا تشرد أفكاري» كما اتفقنا. غير أنها -أفكاري- كانت تنفجر بينَ حينٍ وآخر كقنبلةٍ موقوتة، ولم يكن هناكَ سقفٌ لأحتمي به منها، حتى إن جمود الأرقام لم يحمل عني بعضَ شظاياها.
إن الأرقام لم تعد كيانات جامدة كما أخبرتني. هناك معانٍ جديدة أضيفت لها في الأشهرٍ العشرة الماضية. أتعرفين.. إن كفنا واحدًا في غزة قد حملّ أجساد ثلاثة شهداء دفعة واحدة «أم وأب وطفلتهما»، وإن نصف كيسٍ بلاستيكي فقط تكومت فيه جثة امرأة في منتصف الثلاثينيات، وإن قبرا احتضن ثلاثة أجيالٍ من عائلة واحدة «الجد والابن والحفيد».
لم تعد الأرقام مهرباً من التفكير كما أخبرتني.. أو ربما أن أرقامي لا تشبه أرقامُكِ. وربما أنا لا أشبه أي من مراجعيك الذين يفلح «مشيهم الواعي» في إيقاف عقولهم عن طحن الحزن. أو إنني لم أعد أشبه نفسي أصلاً.
أعرف أنني جئتكم أتكئ على حزني منذ البداية، وقلتِ إن حزني يشبه حزن غيري من اللاجئين الذينَ يصلونكم شهرياً من كل البلاد، قلتِ إننا نخبئ مشكلاتنا بين الملابس ونحن نفر منها، وتساءلتِ كيف يمكن أن تساعدي من جاءك بكامل دسمه -مهموماً، وحيداً وتائهاً ومشتتاً- وهو لم يمتلك الجرأة لترك مشكلاته خلفَ ظهره قبلَ أن يقطع البحار هارباً منها.
لم يكن خبث سؤالك واضحاً كاليوم يا هيلدا، كنت أفكر فيه وأنا أبكي في الطريق للمنزل وفي عقلي صورة طفلٍ هرسته أطنانٌ من الحجارة فصار رأسه المدور يشبه كرة أُفرغت من الهواء.
هذه أكبر مشاكلي يا عزيزتي، أنا من وطنٍ مُحتل يريد محتلوه محوَ ساكنيه عن الأرض.. بكل هذه البساطة، ولا يمكنكِ حتى لو صرتِ ملائكية الهوى أن تغفري لقاتلك. إنهم ماضونَ في إبادتنا بكل الطرق الوحشية التي سجلتها كتب علم النفس التي درستِها ولم تدرسيها، إننا الضحايا المستضعفون يا «هيلدا»، من نأتيكم بكامل دسمنا. نحن المقتولون يا عزيزتي، من يغرسون مشكلاتهم في لحمنا فنظن وتظنون أنها اختيارنا.
نحن المفجوعون المستضعفون المغلوبون على أمرنا، فلا تنجح كل تقنيات علم النفس بحمل وجعنا أو إذابته.
لا أعرف إذا كان رفضي لنظريات العلاج النفسي وشموسه المشرقة وسماءه الزرقاء يزعجك، لكنني آسفة.. إن مشكلتي لا تُحل بالمشي الواعي، ولا عد العصافير وقراءة يافطات المحلات.
قالت لي صديقة تشاركني همّ «حزن المغتربين» إن لكلٍ منا حصته من الوجع، نرثه كما نرث الأرض، وتزيد مساحته في القلب كلما زاد أفراد العائلة المعرضينَ للموت في غزة.
لا يكفي أن نغادر «طوعاً أو مجبرين» لنخلعَ عنا مسؤولية حب البلاد، وإن تعلقنا بغزة ليسَ واجباً نلتزم به فندخل الجنة مثلاً، هناك حبلٌ خفي بيننا يمدنا بالدم، وكل انقباضة ألمٍ في أحشائها تعني صراحةً أننا أحياء.
غزة تنجبنا يا «هيلدا». تزرعنا في جوفها فننبت حاملينَ كل صفاتها الوراثية -قهرها، وغضبها وحزنها- فهل تعرفين معنى أن تكونينَ ابنةً لوطنٍ يموت؟
توضيح ضروري: هيلدا، معالجة نفسية لجأت لها بعد وصولي بلجيكا قبل ثلاث سنواتٍ ونصف. وفي آخر جلسة بيننا قالت «إنك تريدين من يسمعك فقط، إن الكلام الذي لا يقال ثقيلٌ كالحجارة».
{ هدى بارود كاتبة وصحفية فلسطينية من غزة مقيمة في بلجيكا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك