العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

وهـل أصـعـب مــن أن ينجبك وطـن يـموت؟

بقلم: هدى بارود

الخميس ١٥ أغسطس ٢٠٢٤ - 02:00

تسعون،‭ ‬واحد‭ ‬وتسعون،‭ ‬اثنان‭ ‬وتسعون‭... ‬مائة‭. ‬عددت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأرقام‭ ‬أثناء‭ ‬مشوار‭ ‬الهروب‭ ‬اليومي‭ ‬يا‭ ‬‮«‬هيلدا‮»‬‭ ‬لكن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يُفلح،‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬مرهقةٌ‭ ‬من‭ ‬العد‭ ‬والمشي‭ ‬والبكاء‭.‬

كنت‭ ‬أكرر‭ ‬الأرقام‭ ‬بترتيبٍ‭ ‬وانتباه‭ ‬‮«‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تشرد‭ ‬أفكاري‮»‬‭ ‬كما‭ ‬اتفقنا‭. ‬غير‭ ‬أنها‭ -‬أفكاري‭- ‬كانت‭ ‬تنفجر‭ ‬بينَ‭ ‬حينٍ‭ ‬وآخر‭ ‬كقنبلةٍ‭ ‬موقوتة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناكَ‭ ‬سقفٌ‭ ‬لأحتمي‭ ‬به‭ ‬منها،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬جمود‭ ‬الأرقام‭ ‬لم‭ ‬يحمل‭ ‬عني‭ ‬بعضَ‭ ‬شظاياها‭.‬

إن‭ ‬الأرقام‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كيانات‭ ‬جامدة‭ ‬كما‭ ‬أخبرتني‭. ‬هناك‭ ‬معانٍ‭ ‬جديدة‭ ‬أضيفت‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الأشهرٍ‭ ‬العشرة‭ ‬الماضية‭. ‬أتعرفين‭.. ‬إن‭ ‬كفنا‭ ‬واحدًا‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬قد‭ ‬حملّ‭ ‬أجساد‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهداء‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭ ‬‮«‬أم‭ ‬وأب‭ ‬وطفلتهما‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬نصف‭ ‬كيسٍ‭ ‬بلاستيكي‭ ‬فقط‭ ‬تكومت‭ ‬فيه‭ ‬جثة‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬وإن‭ ‬قبرا‭ ‬احتضن‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجيالٍ‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة‭ ‬‮«‬الجد‭ ‬والابن‭ ‬والحفيد‮»‬‭.‬

لم‭ ‬تعد‭ ‬الأرقام‭ ‬مهرباً‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬كما‭ ‬أخبرتني‭.. ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬أن‭ ‬أرقامي‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬أرقامُكِ‭. ‬وربما‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أشبه‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬مراجعيك‭ ‬الذين‭ ‬يفلح‭ ‬‮«‬مشيهم‭ ‬الواعي‮»‬‭ ‬في‭ ‬إيقاف‭ ‬عقولهم‭ ‬عن‭ ‬طحن‭ ‬الحزن‭. ‬أو‭ ‬إنني‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أشبه‭ ‬نفسي‭ ‬أصلاً‭.‬

أعرف‭ ‬أنني‭ ‬جئتكم‭ ‬أتكئ‭ ‬على‭ ‬حزني‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬وقلتِ‭ ‬إن‭ ‬حزني‭ ‬يشبه‭ ‬حزن‭ ‬غيري‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬الذينَ‭ ‬يصلونكم‭ ‬شهرياً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬البلاد،‭ ‬قلتِ‭ ‬إننا‭ ‬نخبئ‭ ‬مشكلاتنا‭ ‬بين‭ ‬الملابس‭ ‬ونحن‭ ‬نفر‭ ‬منها،‭ ‬وتساءلتِ‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تساعدي‭ ‬من‭ ‬جاءك‭ ‬بكامل‭ ‬دسمه‭ -‬مهموماً،‭ ‬وحيداً‭ ‬وتائهاً‭ ‬ومشتتاً‭- ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يمتلك‭ ‬الجرأة‭ ‬لترك‭ ‬مشكلاته‭ ‬خلفَ‭ ‬ظهره‭ ‬قبلَ‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬البحار‭ ‬هارباً‭ ‬منها‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬خبث‭ ‬سؤالك‭ ‬واضحاً‭ ‬كاليوم‭ ‬يا‭ ‬هيلدا،‭ ‬كنت‭ ‬أفكر‭ ‬فيه‭ ‬وأنا‭ ‬أبكي‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬للمنزل‭ ‬وفي‭ ‬عقلي‭ ‬صورة‭ ‬طفلٍ‭ ‬هرسته‭ ‬أطنانٌ‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬فصار‭ ‬رأسه‭ ‬المدور‭ ‬يشبه‭ ‬كرة‭ ‬أُفرغت‭ ‬من‭ ‬الهواء‭.‬

هذه‭ ‬أكبر‭ ‬مشاكلي‭ ‬يا‭ ‬عزيزتي،‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬وطنٍ‭ ‬مُحتل‭ ‬يريد‭ ‬محتلوه‭ ‬محوَ‭ ‬ساكنيه‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭.. ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬البساطة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنكِ‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬صرتِ‭ ‬ملائكية‭ ‬الهوى‭ ‬أن‭ ‬تغفري‭ ‬لقاتلك‭. ‬إنهم‭ ‬ماضونَ‭ ‬في‭ ‬إبادتنا‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬سجلتها‭ ‬كتب‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬التي‭ ‬درستِها‭ ‬ولم‭ ‬تدرسيها،‭ ‬إننا‭ ‬الضحايا‭ ‬المستضعفون‭ ‬يا‭ ‬‮«‬هيلدا‮»‬،‭ ‬من‭ ‬نأتيكم‭ ‬بكامل‭ ‬دسمنا‭. ‬نحن‭ ‬المقتولون‭ ‬يا‭ ‬عزيزتي،‭ ‬من‭ ‬يغرسون‭ ‬مشكلاتهم‭ ‬في‭ ‬لحمنا‭ ‬فنظن‭ ‬وتظنون‭ ‬أنها‭ ‬اختيارنا‭.‬

نحن‭ ‬المفجوعون‭ ‬المستضعفون‭ ‬المغلوبون‭ ‬على‭ ‬أمرنا،‭ ‬فلا‭ ‬تنجح‭ ‬كل‭ ‬تقنيات‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬بحمل‭ ‬وجعنا‭ ‬أو‭ ‬إذابته‭.‬

لا‭ ‬أعرف‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬رفضي‭ ‬لنظريات‭ ‬العلاج‭ ‬النفسي‭ ‬وشموسه‭ ‬المشرقة‭ ‬وسماءه‭ ‬الزرقاء‭ ‬يزعجك،‭ ‬لكنني‭ ‬آسفة‭.. ‬إن‭ ‬مشكلتي‭ ‬لا‭ ‬تُحل‭ ‬بالمشي‭ ‬الواعي،‭ ‬ولا‭ ‬عد‭ ‬العصافير‭ ‬وقراءة‭ ‬يافطات‭ ‬المحلات‭.‬

قالت‭ ‬لي‭ ‬صديقة‭ ‬تشاركني‭ ‬همّ‭ ‬‮«‬حزن‭ ‬المغتربين‮»‬‭ ‬إن‭ ‬لكلٍ‭ ‬منا‭ ‬حصته‭ ‬من‭ ‬الوجع،‭ ‬نرثه‭ ‬كما‭ ‬نرث‭ ‬الأرض،‭ ‬وتزيد‭ ‬مساحته‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬كلما‭ ‬زاد‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬المعرضينَ‭ ‬للموت‭ ‬في‭ ‬غزة‭.‬

لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬‮«‬طوعاً‭ ‬أو‭ ‬مجبرين‮»‬‭ ‬لنخلعَ‭ ‬عنا‭ ‬مسؤولية‭ ‬حب‭ ‬البلاد،‭ ‬وإن‭ ‬تعلقنا‭ ‬بغزة‭ ‬ليسَ‭ ‬واجباً‭ ‬نلتزم‭ ‬به‭ ‬فندخل‭ ‬الجنة‭ ‬مثلاً،‭ ‬هناك‭ ‬حبلٌ‭ ‬خفي‭ ‬بيننا‭ ‬يمدنا‭ ‬بالدم،‭ ‬وكل‭ ‬انقباضة‭ ‬ألمٍ‭ ‬في‭ ‬أحشائها‭ ‬تعني‭ ‬صراحةً‭ ‬أننا‭ ‬أحياء‭.‬

غزة‭ ‬تنجبنا‭ ‬يا‭ ‬‮«‬هيلدا‮»‬‭. ‬تزرعنا‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬فننبت‭ ‬حاملينَ‭ ‬كل‭ ‬صفاتها‭ ‬الوراثية‭ -‬قهرها،‭ ‬وغضبها‭ ‬وحزنها‭- ‬فهل‭ ‬تعرفين‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬تكونينَ‭ ‬ابنةً‭ ‬لوطنٍ‭ ‬يموت؟

توضيح‭ ‬ضروري‭: ‬هيلدا،‭ ‬معالجة‭ ‬نفسية‭ ‬لجأت‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬وصولي‭ ‬بلجيكا‭ ‬قبل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنواتٍ‭ ‬ونصف‭. ‬وفي‭ ‬آخر‭ ‬جلسة‭ ‬بيننا‭ ‬قالت‭ ‬‮«‬إنك‭ ‬تريدين‭ ‬من‭ ‬يسمعك‭ ‬فقط،‭ ‬إن‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقال‭ ‬ثقيلٌ‭ ‬كالحجارة‮»‬‭.‬

 

{ هدى‭ ‬بارود‭ ‬كاتبة‭ ‬وصحفية‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬بلجيكا

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا