لم تكن عودة الاغتيالات المنهجية محض تصفية حسابات قديمة ومستجدة.
إنها لعب بالنار عند حافة هاوية بإقليم تكاد تشتعل النيران في جنباته كلها.
إثر اغتيال «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» بعد يوم واحد من اغتيال «فؤاد شكر» أبرز القادة العسكريين في حزب الله تبدت مخاوف واسعة من انفلات وشيك إلى حرب إقليمية مدمرة.
برمزية موقعه حمل اغتيال «هنية» في العاصمة الإيرانية تحديا يصعب تجاوزه من دون رد مماثل، وإلا تقوضت هيبة طهران الإقليمية.
بالتوقيت فإن الاستهداف جرى في اليوم الأول للرئيس الإصلاحي «مسعود بزشكيان»، كأنه محاولة لقطع الطريق على رهانه الانتخابي في تحسين العلاقات مع الغرب.
وبالموقع فإنه جرى بأحد المباني التابعة للحرس الثوري، كأنه رسالة أخرى تطعن في الإجراءات الأمنية وتشكك في اختراقها.
بقدر آخر مثل اغتيال «شكر» في الضاحية الجنوبية بالعاصمة بيروت، قلعة «حزب الله»، انتهاكا لكل الخطوط الحمر في قواعد الاشتباك وتحديا لقدرته على الردع.
في الحدثين المتعاقبين نذير بعودة الاغتيالات المنهجية، التي أخذت مداها عند مطلع القرن بالنيل من مؤسس «حماس» الشيخ «أحمد ياسين» وبعده «عبدالعزيز الرنتيسي» أقوى رجالها، وعدد كبير آخر من القيادات السياسية والعسكرية في العمل الوطني الفلسطيني، كان أخطرها الوصول بالسم إلى زعيم منظمة التحرير الفلسطينية «ياسر عرفات».
العودة إلى الاغتيالات المنهجية يفسح المجال واسعا لعودة مضادة ونشوء منظمات فلسطينية تتبنى خيار التصفيات الجسدية على النحو الذي كان شائعا في سبعينيات القرن الماضي.
عكس «هنية» لم يكن «شكر» وجها مألوفا في الحياة العامة، رغم مكانته العالية في صلب القرار العسكري والسياسي للحزب.
استخدمت ذريعة الانتقام لمقتل اثني عشر طفلا درزيا في «مجدل شمس» بالجولان المحتل لشن غارة على الضاحية الجنوبية نالت من أبرز قياداته العسكرية، الذي تتهمه واشنطن بمسؤولية الهجوم على مقر مشاة البحرية الأمريكية في بيروت عام (1983).
يستلفت النظر أن إسرائيل رفضت أي تحقيق دولي في حقيقة واقعة «مجدل شمس» ومضت بعيدا بالاستثمار السياسي لإثارة الفتن بين العرب الدروز والعرب الآخرين، وبين الدروز أنفسهم.
أجهضت الفتنة من دروز الجولان وأهالي الأطفال الضحايا، طردوا وزير المالية المتطرف «بتسلئيل سموترتش» من المشاركة في الجنازة ورفضوا أن يجمعهم مشهد واحد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو».
كان دور الزعيم الاشتراكي الدرزي اللبناني «وليد جنبلاط» حاسما في وأد الفتنة المستهدفة.
أعطى تعليمات مشددة بحسن استقبال أي نازحين من الجنوب، حيث يتمركز الشيعة إلى الجبل، حيث يتمركز الدروز إذا ما اضطروا إلى ذلك بضغط أي عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة محتملة.
تبدت في المشهد مفارقتان كبيرتان، أولهما، حديث اليمين المتطرف عن دروز الجولان كمواطنين إسرائيليين فيما أغلبهم لا يحملون جنسيتها ويعتبرون أنفسهم عربا ينتمون إلى سوريا لا إلى غيرها فضلا عن أن الجولان نفسه أرض سورية محتلة وفق القانون الدولي!
وثانيهما، مع فداحة كارثة «مجدل شمس» إلا أنها لا تقاس بأعداد الشهداء والمصابين في قطاع غزة وجرائم الحرب والإبادة التي يتعرض لها أهله بيد القوات الإسرائيلية.
إثر الاغتيالين المتعاقبين خيمت سيناريوهات عديدة للرد، بعضها يتحدث عن عملية منسقة لها دوي وأثر تعيد من جديد معادلات الردع بين إسرائيل وإيران إلى الأوضاع التي بدت عليها إبريل الماضي.
لكل ضربة رد فعل عليها، ولكل عمل داخل الحدود فعل مضاد داخل الحدود الأخرى.
هذا ما سوف يحدث، بصورة أو أخرى، لكن من دون أن يكون واضحا حتى الآن طبيعة الرد وحدوده، جامحا بقدر خطورة الاغتيالين أم رمزيا بحسب ما تضغط دوائر أمريكية وأوروبية عديدة.
بأثر اغتيال «هنية» يصعب الحديث بأي مدى منظور عن استئناف المفاوضات غير المباشرة في القاهرة والدوحة بين «حماس» وإسرائيل.
لم يكن معقولا اغتيال المسؤول السياسي الفلسطيني الأول أثناء المفاوضات إلا أن يكون مقصودا نسف أي رهانات على وضع حد للحرب في غزة بصفقة تبادل للأسرى والرهائن.
بالضبط هذا ما يريده «نتنياهو» لأسباب تتعلق بمستقبله السياسي وطلبه إدامة الحرب وتوسيعها حتى يحقق ما يسميه بـ«النصر المطلق».
بأثر اغتيال «شكر» تتباعد أي احتمالات لتهدئة الجبهة الشمالية الإسرائيلية وعودة آلاف الأسر إلى المستوطنات التي اضطروا إلى مغادرتها.
بالاغتيالين حاز «نتنياهو» مكسبا يثبت مكانته السياسية داخل الرأي العام الإسرائيلي بعدما اهتزت بشدة بعد أحداث السابع من أكتوبر (2023)، لكنه هش بأي حساب استراتيجي وتداعياته لا يمكن التحكم فيها.
ربما أفضى الاغتيالان إلى رد اعتبار الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية، التي تضررت تماما، لكنه جاء منقوصا ومشكوكا فيه بالنظر إلى الدور الأمريكي الذي وفر المعلومات التفصيلية والتقنيات الحديثة التي استخدمت رغم نفي واشنطن المتواتر لأي صلة، أو علم مسبق باغتيال «هنية».
كان ذلك النفي تعبيرا عن خشية أن تفلت ردات الفعل إلى حرب إقليمية لا تريدها وتضر بمصالحها لا إقرارا بالحقيقة.
حاولت الإدارة الأمريكية التحكم المسبق في مسار المواجهات المحتملة بعد تحقيق أهداف الاغتيالين.. مرة بالتأكيد أن هناك فرصا لوقف الحرب على غزة وإتمام صفقة التبادل.. ومرة أخرى بالتحذير من عواقب وتداعيات الحرب الإقليمية المحتملة.
في السياق جاء اغتيال «شكر» و«هنية» إثر اقتحامات لمتظاهرين من اليمين المتطرف، بدعم من وزراء في حكومة «نتنياهو»، لقواعد عسكرية فيما يشبه الانقلاب على مركزية الجيش في بنية الدولة بحسب تصريح لافت لزعيم المعارضة «يائير لابيد».
استهدفت الاقتحامات منع محاكمة جنود ارتكبوا جرائم مروعة بحق أسير فلسطيني وصلت إلى هتك العرض والاغتصاب.
كان القصد الإيحاء بأن هناك دولة قانون تحقق في وقائع أسهبت في كشف فظاعتها المنظمات الحقوقية الدولية، لا إجراء محاكمة حقيقية، غير أن اليمين الإسرائيلي المتطرف حاول أن يؤكد سطوته ونفوذه وأنه لا ملاحقة لمن يقتل أو يعذب الفلسطينيين.
ما بدا خطيرا في تلك الاقتحامات سقوط هيبة الجيش الإسرائيلي نفسه.
ربما كان ذلك سببا إضافيا من حيث التوقيت للاغتيالين المتزامنين لاستعادة الهيبة المفتقدة.
الحسابات ملغمة وسيناريوهات الحرب الإقليمية الواسعة محتملة أكثر من أي وقت مضى.
معضلة السياسة الأمريكية انها توفر لإسرائيل الغطاء السياسي والاستراتيجي اللازم لانتهاك كل القواعد القانونية الدولية من دون رادع، وتحذر الطرف الآخر من الانزلاق إلى حرب إقليمية من دون اعتبار لمصالحه وهيبته.
إنها وصفة انفجار إقليمي نذره ماثلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك