مثّل غياب استراتيجيات محددة أو أهداف عسكرية وسياسات معقولة للحكومة والجيش الإسرائيلي، طيلة فترة الحرب في غزة منذ أكتوبر 2023؛ موضع تساؤل متكرر من قبل الخبراء العسكريين والمراقبين الأكاديميين الغربيين. وفي ملاحقة ما أسماه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو النصر الكامل، قتل الجيش الإسرائيلي ما لا يقل عن 39.700 مدني فلسطيني حتى الآن، وشرّد 80% من سكان المنطقة، ودمر وألحق أضرارًا بمساحات كبيرة من هياكلها وبنيتها التحتية، وتسبب في كارثة إنسانية كبرى وصفها الصليب الأحمر البريطاني بأنها مأساة إنسانية لا تطاق؛ حيث المجاعة، وانهيار نظام الرعاية الصحية، والمنظومة التعليمية. وعلى الرغم من كل تلك الانتهاكات، إلا أن القصف الإسرائيلي ومحاولة احتلالها لغزة قد فشل في إلحاق هزيمة عسكرية بحركة حماس.
وعقب عشرة أشهر من الحرب المستمرة التي ألحقت أضرارًا سيئة السمعة بإسرائيل على المستوى الدولي، رفضت حكومة نتنياهو اليمينية وقف الحرب، واختارت عوضًا عن ذلك تصعيد التوترات مع منافسيها الإقليميين الآخرين، وأبرزهم النظام الإيراني. وأثارت عمليات الاغتيال في أواخر يوليو وأوائل أغسطس 2024 لعدد من مسؤولي حزب الله وحماس وإيران - وأبرزهم إسماعيل هنية الزعيم السياسي على الأراضي الإيرانية - مخاوف دولية بشأن احتمال الثأر والانتقام الذي قد ينحدر إلى صراع إقليمي كامل.
وبعد أن أقدمت الحكومة الإسرائيلية على اتخاذ إجراءات عدوانية متعمدة تعرف أنها ستؤدي إلى انتقام من إيران ووكلائها؛ ناقش الأكاديميون الغربيون سبب لجوئها مرارًا وتكرارًا إلى التصعيد في صراعاتها الإقليمية، منتقدين الأسباب المفترضة لذلك والتقاعس المتكرر من جانب الدول الغربية - وأبرزها الولايات المتحدة - عن التدخل لإنهاء هذه الدورة من التصعيدات.
فكتبت داليا داسا كاي من مركز بيركل للعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، أنه على نقيض ما تظهره إسرائيل من قوة وقدرة على ضرب أعدائها متى شاءت في جميع أنحاء المنطقة - بما في ذلك إيران - فإن إسرائيل حاليًا تدفع حدود التصعيد الإقليمي ليس لأنها تشعر بالقوة، ولكن لأنها تشعر بالضعف بينما أشار ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية، أن غياب اتفاق أمني رسمي بين إسرائيل وراعيها الأمريكي يشجعها على المقامرة والمخاطرة بالتصعيد وخاصة حين يقترن ذلك بالمآرب الشخصية لنتنياهو لمواصلة الحرب لحماية مستقبله السياسي، وترى إيما أشفورد من مركز ستيمسون، أنه من الصعب رؤية تصرفات إسرائيل على أنها أي شيء آخر غير محاولة لإثارة حرب إقليمية أوسع نطاقًا.
وأكدت داسا كاي أن هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 وجه ضربة مدمرة لـ«موقف الردع الإسرائيلي»، ونتيجة لذلك، سعى نتنياهو والعسكريون الإسرائيليون إلى جني أي مزايا تكتيكية ممكنة في محاولة لاستعادة الردع، بغض النظر عما سيجلبه هذا من مخاطر أكبر؛ وفرض تكاليف أعلى على إسرائيل نفسها. إلا أن نتنياهو قد فشل مرة أخرى في تقدير الرد الإيراني ولم يتوقع الرد غير المسبوق والهائل من طهران في شكل مئات الصواريخ والمسيرات، مما دفعها إلى طلب مساعدة من الولايات المتحدة ودول أخرى لاعتراض وابل الصواريخ فأضرت بصورتها المعتمدة على قدراتها.
وتابعت داسا كاي أن اغتيال هنية ومسؤولين آخرين مدعومين من إيران في الأيام الماضية زاد بشكل كبير من التوترات والتصعيدات بين إسرائيل وطهران، وحذرت من أن خفض تلك الأوضاع الوصول إلى نهاية للصراع يبقى غير مضمون تمامًا. كما لاحظت داسا كاي أن الجيش الإسرائيلي أصبح الآن منهكًا على جبهات متعددة، في حين توجد أيضًا خلافات خطيرة بين القادة المدنيين وكبار القادة العسكريين تعود إلى محاولات نتنياهو لإجراء تغييرات على القضاء الإسرائيلي أوائل عام 2023.
وعلى الرغم من أن النظام الإيراني متورط في خلق تلك الحالة من تدهور الأمن الإقليمي، فقد أشارت آشفورد أن نتنياهو وحلفاءه هم من يدفعون إلى حرب أوسع نطاقًا. أوضحت أن لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي كافة الدوافع للمخاطرة بالانخراط في صراع إقليمي مع إيران، لأنه يعلم بأنه سيفقد السلطة عندما تنتهي الحرب ثم سيتعين عليه في النهاية مواجهة اتهامات الفساد الموجهة إليه من قبل القضاء، وعليه فإنه مازال يستفيد شخصيًا من إبقاء الحرب في غزة مستمرة، وزيادة التوترات مع إيران.
وفي إشارة إلى مدى انتشار حالة عدم الثقة لدى الإسرائيليين في حكومتهم بعد الفشل الاستخباراتي في أكتوبر 2023، أشارت داسا كاي إلى أن التصفيق الحار الذي تلقاه نتنياهو من البرلمانيين الأمريكيين عندما ألقى خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في يوليو الماضي، لا يقارن بالطريقة التي تعرض لها مستشاره للأمن القومي تساحي هنغبي للسخرية من قبل حاضرين إسرائيليين في مؤتمر أمني قبل أسابيع. وعلى عكس ادعاءات بعض وسائل الإعلام الغربية وأعضاء الحكومة الأمريكية، أشار كوك أن اتفاق وقف إطلاق النار المحتمل بين إسرائيل وحماس لم يكن وشيكًا أبدًا لأن التزام نتنياهو المعلن بإنهاء الحرب دبلوماسيًا كان دائمًا أشبه بالخدعة، حيث لم يكن لدى حكومته وجيشه أي نية لوقف الحرب.
واستنادا إلى ما أشار إليه كرونيج بأن المصالح الوحيدة التي يتم خدمتها هي ثروات نتنياهو السياسية، فإن السؤال التالي الذي لا يحمل أي إجابة حاليًا هو: لماذا لم تتدخل الولايات المتحدة - باعتبارها الراعي الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري الرئيسي لإسرائيل - لمنع مثل هذا التصعيد الخطير من جانب نتنياهو؟ في حين أن القرارات السياسية الخاطئة تلو الأخرى والتي اتخذها كانت لها تداعيات كارثية بالنسبة إلى الولايات المتحدة أيضًا.
ومن المثير للدهشة أن رد الولايات المتحدة على تصعيد إسرائيل كان تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، وقد أشارت داسا كاي أن اطمئنان القادة الإسرائيليين أنهم سيحتفظون دومًا بدعم الولايات المتحدة يعني أن يقدموا على شن مزيد من الهجمات العدوانية والقبول بخطر اندلاع صراع أوسع نطاقًا، ولاسيما مع علم نتنياهو وحلفائه أنه هناك عدد من الأسباب السياسية والتاريخية والأخلاقية قد تضطر الرئيس الأمريكي الحالي إلى مساعدة إسرائيل حتى لو كان العدوان الإسرائيلي هو الذي أدى إلى تفاقم التوترات. وأبدت آشفورد أسفها حيال التوسلات العقيمة من جانب الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن لخفض التصعيد طوال مدة الحرب في غزة، معتبرة أن عدم ممارسة الضغوط على إسرائيل كان له تأثير بجعل الأمور أكثر سوءًا.
وبالتالي، وفي ظل إدراكها أن واشنطن ستدعمها بغض النظر عن مسؤوليتها عن تعريض الأمن الإقليمي للخطر، أوضحت داسا كاي أن إسرائيل في سعيها اليائس لاستعادة الردع قد تفتح أبواب الجحيم دون الاعتماد على أي استراتيجية سياسية، وربما تختار بدلاً من ذلك الإيمان بقوتها العسكرية الغاشمة لتغيير الديناميكيات في المنطقة. وعلى رغم من أن كرونيج يرى أن مثل هذه الهجمات العدوانية يمكن أن تساعد في استعادة الردع، إلا أن داسا كاي تؤكد أنها من المرجح أن تجعل منافسي إسرائيل يضاعفون جهودهم بطرق غير متوقعة ويفاجئون حكومة نتنياهو مرة أخرى. فليس غريبًا أن يرى الخبراء الغربيون بأن المسار الحالي لنتنياهو وحلفائه السياسيين يعرض أمن إسرائيل للخطر أكثر بكثير من تعزيزه.
وأفاد كوك أن الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان سيبدو ضعيفًا بشكل قاتل إذا فشل في الرد بالقوة على الانتهاكات الإسرائيلية، وهذا يعني أنه لا يبدو أن هناك الآن طريقة لتجنب التصعيد. وأوضح أنه على الرغم من أن مقتضيات الميثاق الأمني الرسمي بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي وحدها ستكون قادرة على احتواء تصرفات إسرائيل الإقليمية من خلال تحديد حجم الالتزامات الأمريكية بالتفصيل، إلا أن السبب الجذري لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط هو فشل الردع من جانب واشنطن نفسها.
على العموم خلصت داسا كاي إلى أن التوصل إلى نهاية تفاوضية للحرب في غزة مع حماس لن يحل في نهاية المطاف المعضلة الاستراتيجية الأكبر التي تواجهها إسرائيل، وهي أنه في حين أن العمليات العسكرية التكتيكية المثيرة للإعجاب قد تعطي وهم النصر، فإن السلام الدائم مع الفلسطينيين وحده القادر على جلب الأمن الحقيقي لإسرائيل. وهذه النتيجة التي تجاهلتها الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحاضر، والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن حالتي عدم الاستقرار وعدم اليقين سيستمران في ملاحقة الحكومة الإسرائيلية إلى أجل غير مسمى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك