مصطلح «الأصوليون» أو «المتشددون (Fundamentalists)» ارتبط بالأساس -وخاصة في العقلية الغربية- بالأصولية الإسلامية، التي توصف بأنها تعيش في قالب فكري جامد، تعتبره مقدسا من الناحية الدينية، ويرتبط فكرها بالماضي، ويستمد شرعيته منه، ويسعى للعودة إليه؛ أي أن الماضي وليس المستقبل هو محور المشروع الأصولي.
ما نشهده اليوم في ساحة منطقة الشرق الأوسط هو تصاعد نفوذ مشروع أصولي آخر، يرتبط هذه المرة باليهودية وليس بالإسلام، ويتسم بعقلية جامدة، تلغي الآخر، وترفض التعايش مع أي رؤية مغايرة، وتسعى للعودة إلى ماض سحيق، وعلى حساب المستقبل واعتبارات الواقع الذي نعيش فيه.
خطورة مشروع الأصولية اليهودية أنه موجود الآن في الحكومة الإسرائيلية، ويستخدم ما تملكه الدولة من سلاح لتحقيق رؤيته وتنفيذ مشروعه.
الصراع الدائر الآن في منطقة الشرق الأوسط، ورفض وقف إطلاق النار، والحلقة الجهنمية من سفك الدائم والتصعيد المستمر، هي في أحد جوانبها تعبير عن صراع الأصوليات، مع التأكيد على أن قوى الأصولية اليهودية تتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية عن استمراره.
خطورة صراع الأصوليات الدائر الآن أنه يشدنا نحو الماضي ويربطنا به، ومن ثم فإن أي حديث عن مستقبل المنطقة، أو محاولة بناء شرق أوسط جديد، سيكون كله أفكارا وهمية ومشاريع فاشلة إذا استمر نفوذ هذه الأصوليات التي تشدنا إلى الماضي، وخاصة الأصولية التي تحكم إسرائيل الآن.
الأصولية التي تعيش بيننا في العالمين العربي والإسلامي معروفة لدينا، ولذا من المهم تسليط الضوء بشكل أكبر على المشروع الأصولي اليهودي الذي يشارك الآن في حكم إسرائيل.
تصريحات نخبة الحكم في إسرائيل، بدءا من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعدد من أعضاء حكومته، تعبر عن هذا المشروع بشكل واضح، وتؤكد أن هذا التيار هو من يوجه عجلة الحكم في إسرائيل الآن.
على سبيل المثال، يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن يصف الضفة الغربية بأنها أرض محتلة، لأنها وفقا له هي أرض أعطاها الرب للشعب اليهودي، وبالتالي فإن وجود إسرائيل فيها حق وليس احتلالا، وفي شهر يوليو الماضي رد نتنياهو على قرار محكمة العدل الدولية الذي أكد أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة «غير شرعي» ودعا لإنهائه، ببيان ذكر نتنياهو فيه أن «الشعب اليهودي لا يحتل أرضه ولا عاصمته القدس ولا أرض آبائنا وأجدادنا في يهودا والسامرة»، وهو الاسم الذي يطلقه نتنياهو والأصوليون اليهود على الضفة الغربية.
مقال نشر في جريدة هآرتس الإسرائيلية منذ أسابيع قليلة يوضح مدى تأثير هذا التيار الأصولي. المقال بعنوان «زمن المعجزات: الأصوليون اليهود من اليمين المتطرف في إسرائيل يريدون الحرب والمستوطنات والانتفاضة. ونتنياهو يسهّل لهم ذلك».
المقال يشير إلى أنه بالرغم من أن العديد من الإسرائيليين، ومنذ 7 أكتوبر الماضي، يرون أن إسرائيل تعيش الفترة الأكثر مأساوية في تاريخها، إلا أن هناك مسؤولين إسرائيليين مثل وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، يشعرون «أننا نعيش في زمن المعجزة»، وفي حديث لها مع مجموعة من المستوطنين أشارت إلى السهولة التي تستطيع بها الآن هي وزملاؤها من الوزراء اليمينيين تفويض وتمويل المزيد من البناء الاستيطاني بسبب مزيج من سيطرتهم على المواقع الحكومية الرئيسية، والتركيز على الأحداث في أماكن أخرى (حرب غزة والحدود الشمالية). وقد أدى ذلك ليس فقط إلى تمكين عمليات البناء الجديدة، بل إلى تهجير المجتمعات الفلسطينية الريفية المحلية.
وهناك من يرى أن حرب غزه تعد «فرصة سماوية» لتحقيق المزيد، مثل وزير المالية ورئيس حزب «الصهيونية الدينية» سموتريتش، فقد دعا ليس فقط إلى مواصلة الحرب في غزة «بكل قوة»، بل إلى الشروع في حرب أوسع في لبنان ضد حزب الله. ويرى أن رقعة جديدة من أرض الوعد الكتابي تنفتح في جنوب لبنان.
ويستخدم سموتريتش صلاحياته كوزير للمالية لمحاولة تنفيذ خطته التي نُشرت عام 2017، للإطاحة بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ويأمل في إثارة انتفاضة فلسطينية من شأنها أن تجبر إسرائيل على دخول جميع المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية حاليا، والقضاء على اتفاق أوسلو 1993.
ويشير المقال إلى أن إسرائيل تخوض الآن حربين: الحرب الرسمية ضد حماس وبنيتها العسكرية التي يقودها الجنرالات، والحرب الأصولية الدينية التي يقودها اليمين المتطرف. وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يفهم تماما الحربين الجاري خوضهما. ويدرك أن ائتلافه الحاكم يعتمد على أولئك الذين يخوضون حربًا أصولية، وعليه أن يبقيهم سعداء وإلا فسوف يسقطون حكومته.
لذا يوافق نتنياهو من ناحية على إرسال وفود إلى القاهرة والدوحة لإجراء محادثات حول وقف محتمل لإطلاق النار والإفراج عن الرهائن إرضاء للجنرالات والضغوط الدولية، بينما يتبنى سياسات تهدف إلى عرقلة تلك المحادثات.
باختصار، الغرب يتحدث دائما عن أن الأصولية في العالم العربي والإسلامي لا يمكن أن تكون جزءا من المستقبل، ولكن بنفس المنطق فإن الأصولية التي تدير المشهد الآن في إسرائيل تناقض أي أفكار تتعلق بالسلام والتعايش، وأي شرق أوسط جديد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك