يرصد العالم بقدر من القلق بروز ظاهرة صعود اليمين وكثير من مظاهر العنصرية في العالم الغربي بصورة عامة، وفي هذا الصدد لا ينفصل مشهد الانتخابات الأمريكية واحتدام المنافسة بين اليمين الأمريكي بقيادة دونالد ترامب والقوى الديمقراطية عن مجمل مواجهة محتدمة وحرجة تشهدها مجتمعات غربية أخرى، من بينها المملكة المتحدة التي تشهد أعمال عنف غير مسبوقة تقوم بها عناصر يمينية وجدوا من يتصدى لهم من قوى شعبية مضادة.
ويتحدث بعضهم بمبالغة عن مخاوف من حرب أهلية في هذه الدولة، وهو ما يأتي بعد نكسة تعرض لها اليمين البريطاني بوصول حزب العمال بغالبية كبيرة إلى السلطة، فبدت الأمور وكأنها ظاهرة عكس تيار صعود «اليمين» في الغرب، وقبلها احتشد «اليسار» و«الوسط» الفرنسي لوقف صعود «اليمين الفرنسي».
يخوض الحزب الديمقراطي الانتخابات الرئاسية المقبلة شاحذاً كل قوته ومدركاً خطورة هذه المعركة، وليس من دليل أبلغ من توقع قيام الرئيس السابق باراك أوباما بدور كبير في الحملة الانتخابية لكاميلا هاريس، وأن يلقي بكل ثقله ومعه كل قيادات الحزب في هذه المعركة وكأنها معركة بقاء ومستقبل الحزب، بل ربما ينظر إليها كثيرون على أنها تحمل تهديدات حقيقية لمستقبل الولايات المتحدة ذاتها.
وعلى رغم أن الاستقطاب السياسي ظاهرة معتادة في كثير من دول العالم، وظاهرة تقليدية في المجتمع الأمريكي، فإن الاستقطاب الذي تبلور خلال العقود الأخيرة كان أكثر تعقيداً ويمثل تحدياً غير مسبوق في هذا المجتمع، وكما أشرنا في مقالات سابقة فقد تجاوز الأبعاد التقليدية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
بدايات هذا الاستقطاب تبلورت منذ منتصف القرن الماضي، إذ يمثل الحزب الجمهوري المكون المهيمن على المجتمع الأمريكي منذ نشأته، أي المكون الأنجلو-سكسون الإنجيلي البروتستانتي، بينما تذهب معظم أصوات المكونات الإثنية الأخرى من كاثوليك أوروبيين وذوي الخلفيات اللاتينية ويهود وأفارقة أمريكيين وأقليات أخرى إلى الحزب الديمقراطي. وبطبيعة الحال ليست هناك حدود جامدة، فمن الطبيعي أن كثيراً من أبناء الأقليات المختلفة يميلون للتصويت لمصلحة الجمهوريين، كما يتبوأ عدد ليس قليلاً منهم مواقع قيادية في الحزب ومواقعه.
وعلى الجانب الآخر ثمة قادة عدة في الحزب الديمقراطي من ذوي الخلفية الأنجلو-سكسونية والمذاهب البروتستانتية، مع بقاء التركيبة الرئيسة لأنماط التصويت في الإطار العام السابق الذكر.
لكن الاستقطاب الراهن هو نتاج تحولات عميقة في الساحة الأميركية أوصلت الغالبية السابقة، أي المكون الأنجلو-سكسون المحافظ إلى وضع متراجع، وصحب هذا نمو في اتجاهات تحررية منفتحة تجاوزت تيارات الوسطية التي كانت تسود السياسة الأمريكية خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وسمح نمو هذه الظاهرة بوصول أول رئيس من أصول إفريقية إلى مقعد الرئاسة، أي أوباما، وكان مجرد وصوله الحدث الذي أثار ردود فعل متصاعدة داخل اليمين الأمريكي وأوصل دونالد ترامب إلى الحكم، مع حال التعبئة والحشد لدى هذا اليمين لمنع استمرار حكم الديمقراطيين أو وصول مرشحة سيدة، هيلاري كلينتون، إلى السلطة، وكان هذا التعبير عن تحولات المجتمع الأمريكي وحدّة هذا الاستقطاب.
ورداً على هذا احتشدت كل الأقليات لتمنع مواصلة ترامب البقاء في الحكم والحصول على فترة ثانية، وفي الحقيقة أن مشهد السادس من يناير 2021 حين اقتحم أنصار ترامب مواقع رموز الدولة الفيدرالية إلى حد تهديد الديمقراطية الأمريكية، ومواصلة ترامب حتى اليوم اتهام الديمقراطيين بتزوير الانتخابات، هو في ذاته قمة التعبير عن حال الاستقطاب الحادة في المجتمع الأمريكي، فـ«اليمين» يخوض معركة صعبة وهو في حال استنفار وغضب لم يهدأ بعد.
كانت السردية الغربية قبل احتشاد «اليسار» و«الوسط الفرنسي» تقضي بأن «اليمين الأوروبي» يتقدم بصورة حثيثة في أكثر من دولة غربية، ونجح بالفعل في بلدان عدة وأهمها إيطاليا، ورغم أن رئيسة الوزراء الإيطالية أثبتت قدراً من الحصافة وعدم الاندفاع، فإنها عبرت في الوقت نفسه عن التحولات التي لا يمكن إنكارها في شأن صعود المد اليميني في الغرب، ثم جاءت المفاجأة الفرنسية والبريطانية، وفي الحالين تكتلت قوى اليسار والوسط لمنع وصول «اليمين» إلى حكم البلدين، وكان الأمر أكثر وضوحاً في فرنسا كما هو معروف.
والحقيقة أن التشابه الرئيس بينما يحدث في المشهدين الأمريكي والأوروبي هو تلك العلاقة الجدلية في هذه المجتمعات، وتتمثل في أن صعود كل من التيارين وتبنيه توجهات حادة يؤدي إلى تعزيز واستثارة الطرف الآخر، ففي الحال الأمريكية جاء وصول أوباما عاكساً للتطورات البنيوية والفكرية في هذا المجتمع، مما أدى إلى بروز رد فعل ممثل في حال أو ظاهرة ترامب التي ما كان يمكن تخيل وصولها إلى الحكم في البيت الأبيض قبل أعوام قليلة، بما يمثله فكرياً وسلوكياً، والشيء نفسه في المجتمعات الأوروبية، فتصاعد مفاهيم الليبرالية والتعددية وقبول الآخر واستقبال المهاجرين في الوظائف الدنيا والعليا على السواء أدى إلى بروز تيارات مضادة.
يذكر أن السردية الغربية اليمينية في شأن مزاحمة المهاجرين للوظائف مليئة بالمغالطات، ونظرة بسيطة على الفِرق الرياضية الأوروبية التي تزدحم بالأفارقة وغيرهم، والذين يعودون بعوائد مالية ضخمة للدول المستضيفة، تكشف حجم هذه المغالطات.
من ناحية أخرى توجد نظم قانونية في كثير من هذه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، تقدم مزايا لأصحاب التخصصات الرفيعة أو المميزين وتسهل هجرتهم بل واجتذابهم، فضلاً عن حاجة كثير من هذه المجتمعات إلى العمالة الرخيصة في الوظائف الدنيا، وقد صحب كل هذه الاعتبارات مزيد من التبلور لمنظومة الأفكار الليبرالية في اتجاهات متصاعدة خلقت مناخاً مؤاتياً للتعددية وقبول الآخر، كما خلقت مساحة أوسع من الحريات والترويج لأفكار تزيد من الفجوة مع التيارات اليمينية المحافظة، وخاصة المثلية وحق الإجهاض.
كل هذه المنظومة المعقدة التي سمحت بتبلور اتجاهات قوية انعكست سياسياً وأنشأت أيضاً علاقة جدلية معقدة مع «اليمين المحافظ»، وكل تصاعد لأي من التيارين يؤدي إلى استنفار الآخر وتحفزه.
لكن الخطورة الراهنة تتمثل في تصاعد احتمالات العنف، وما يحدث في شمال بريطانيا ينذر بعواقب خطرة، وبخاصة مع ارتباطه بتنظيمات وليس مجرد اضطرابات منفلتة، كما أن تصدي المعارضين لهذه العناصر اليمينية يثير القلق في شأن انتشار العنف في هذا المجتمع، وتظل ذكرى ما حدث في السادس من يناير 2021 في الولايات المتحدة من جانب أنصار ترامب حية في الأذهان، وبخاصة أن ترامب ألمح إلى أنه لن يقبل نتيجة انتخابات لن يفوز بها، وربما يقدم على كثير من القرارات التي تربك السياسة والمجتمع الأمريكي، وفي الحقيقة فإن حال الاستنفار والقلق، لو أضفنا إليها محاولة اغتيال ترامب الفاشلة، ربما تجعل العنف من جانب الرافضين لـ«اليمين الأمريكي» أيضاً أمراً محتملاً، وبالنهاية يصب كل هذا في توقع مستقبل محفوف بالأخطار.
{ مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك