أتيح لي قضاء عدة جلسات مع «البروفيسور محمد يونس»، عبر يومين متتاليين، كان ذلك في بدايات سنة 2019، حيث أقامت وزارة الثقافة بالمملكة العربية السعودية ندوة موسعة في مدينة «العلا»،
دُعي إلى الندوة عدد كبير من المشاركين حول العالم، كان بينهم اثنان من الرؤساء السابقين هما الفرنسي نيكولا ساركوزى والبولندي ليخ فاليسا، واثنان من وزراء الثقافة السابقين، كنت أحدهما والثاني كان وزير الثقافة الفرنسي أيام الرئيس جاك شيراك، وكان محمد يونس على رأس المشاركين وكان موضع احتفاء وتقدير الجميع.
افتتحت الندوة مديرة اليونسكو السيدة أوزولاي. وفوجئت أن المقر المخصص لإقامتي بحوار مقر محمد يونس والرئيس البولندي السابق ليخ فاليسا.
في الجلسة الرسمية تحدث الرئيس البولندي السابق عن تجربته هو وزملاؤه من نقابة عمال السفن والموانئ في التمرد على الحزب الشيوعي زمن جورباتشوف، كانت تجربته مسمارا كبيرا في نعش الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي كله؛ أن يصدر التمرد من وارسو مقر الحلف الاشتراكي، فهذا مؤشر على الانهيار من الداخل، جورباتشوف لم يتعامل كما تعامل سلفاه، خروتشوف سنة 1956 في المجر وبريجنيف سنة 1968 مع انتفاضة براج، تفهم جورباتشوف المطالب، في النهاية انهار الاتحاد السوفيتي، تفتت من داخله. ونالت بولندا استقلالها وسيادتها التامة، واعتبر زعيما وطنيا وليس قائد حركة عمالية وصار رئيسا للبلاد، لم تكن تجربته ناجحة.
في الجلسة الرسمية تمسك بمقولة إن انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالعالم لم يخطر بباله هو وزملاؤه، لو أنهم أدركوا ذلك ما أقدموا على ما قاموا به من احتجاجات.
في أحاديثنا بعيدا عن الندوة لم يخرج عن تلك المقولة، راح يلح عليها وكأنه متهم بشيء يود أن ينفيه عن نفسه، بدا لي أن روح الحزب الشيوعي، لم تغادره وأنه كان يضج من بعض قيادات الحزب وليس الحزب والفكرة ذاتها، كان متبرما بكل شيء، إحساس مخيف أن تشعر في نهاية الطريق أن كل ما قمت به وناضلت من أجله، لم يكن صوابًا، وأنك أسأت التقدير في شأن يتعلق بالمجتمع كله، ليس شعورا بالندم، لكنها حالة من الحسرة، ربما الشعور بالذنب والإحساس باللا جدوى.
على النقيض منه كان جارى الآخر د. يونس، كان راضيا تماما بكل ما قام به، يتحدث عن تجربته بسعادة واعتزاز وتواضع أيضا، لا غرور ولا مبالغة حول الذات، لم يكن دافعي للتحدث معه الفضول وحده ولا الرغبة في الاستفادة بهكذا مصادفة للخروج بحوار ينشر.
كنت أعرف جيدا تجربته في بنك الفقراء وجائزة نوبل في السلام، وفي مسيرته الكثير مما يدعو إلى الإعجاب، منذ أن عاد إلى بلاده حاملا الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية، دكتوراه بجد، ومع ذلك لم «يتدكتر» على الآخرين ولا على نفسه ومجتمعه ولا انشغل بالوجاهة الاجتماعية والانتهازية البيروقراطية للفوز بوظيفة مريحة أو منصب متميز.
نزل إلى الشارع واحتك بعموم المواطنين وراح يمد يده إليهم ويغوص في مشاكلهم باحثا عن حل، ليس بروح المن والتعطف المشوب بقدر من الاستعلاء، ولكن تحرك بحثًا عن حل أو حلول تفيد الجميع، قدر الإمكان، حقق قدرًا كبيرًا من النجاح وصارت تجربته تحتذى، لم يمنع ذلك وجود خصوم له ولتجربته داخل بلاده، سواء لدى بعض الأحزاب وبعض النخب الحاكمة.
في الجلسة الرسمية تحدث عن تجربته، كان فكره متجهًا إلى المستقبل وليس متوقفا عند الماضي، حتى لو كان جيدا.
لكن كانت لدى تساؤلات عديدة حول تجربته هو وحول بلاده «بنجلاديش»، ذات الموقع الحساس في تلك المنطقة.
انشغلت بهذا البلد في مطلع التسعينيات، حين كان هناك صراع سياسي طرفاه الشيخة حسينة ابنة مؤسس الدولة، حين انفصالها عن باكستان، مجيب الرحمن، والطرف الآخر السيدة خالدة ضياء، بلد به جماعة إسلامية قوية، ولا غضاضة أن يكون التنافس السياسي بين سيدتين، في الوقت ذاته كانت الراحلة «بنازير بوتو» تتألق في باكستان، الإسلام الآسيوي يقبل هذه النماذج، بينما نحن هنا كنا نتعارك حول صوت المرأة وخروجها من البيت، فيما بعد اغتيلت في باكستان السيدة بوتو، وجاء جيل جديد في البنغال لا يرى في الشيخة حسينة ملهمة ولا زعيمة، كما أنه لا يراهن ولا يريد غريمتها خالدة ضياء.
كنت أريد أن أستمع منه حول تجربة بلاده وهذه المنطقة من آسيا عموما التي تصل إلينا الكثير من أصدائها ورذاذها كذلك.
أما تجربته، أقصد محمد يونس، فقد نجحت في حدودها، الاهتمام بمن يطلق عليهم في علم الاجتماع «أفقر الفقراء»، كنت أريد الوقوف على ما قام به ولماذا قرر أن يمنحهم قروضا، وكان بإمكانه أن يقدم لهم صدقات أو يجمع الزكاة ويقدم منها لهم أو يجمع تبرعات وهبات لحسابهم، في ذلك كان واضحا أنه إذا قدم لهم تبرعات وصدقات لا تُرد، فقد يعتادون على ذلك ولن يصبحوا فاعلين ومنتجين، ومن ثم لن يخرجوا من دائرة الفقر المدقع.
وكانت ملاحظتي أيضا أن تجربته تضمن إنقاذ بعض الفقراء، وليس كلهم، كما أنها لا تحول دون ظهور فقراء جدد، وخاصة في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية عالمية، تمتد آثارها حتما إلى الدول الفقيرة.
الآن يواجه الرجل مسؤولية كبيرة، وقع اختبار الطلاب المحتجين عليه هو، البالغ من العمر (84) عامًا ليكون رئيسا للوزراء، خلفًا للشيخة حسينة، عليه أن يعمل في جو من الاضطراب والفوضى، الآمال معقودة عليه، لكن المعوقات ستكون كثيرة، خصوم سياسيون، جمهور غاضب ومتعجل النتائج، قد يكون بعضهم دخل مرحلة التظاهر للتظاهر وهؤلاء خطر مدمر وقاتل لأى تجربة بناء، أما جهاز الدولة فله شأن آخر، هو فرض عليهم من المتظاهرين هل يقفون إلى جواره لتجاوز الأزمة الضخمة أم يحدث العكس؟ وهناك الضغوط الخارجية بحكم الموقع والتوازنات الاستراتيجية.
لدى «محمد يونس» تجربة اقتصادية ناجحة، أنقذ كثيرين من الفقر وخلق فرص عمل للشباب، ورغم الأهمية الكبيرة للتنمية والتطور الاقتصادي، تثبت الخبرة العملية أن النجاح الاقتصادي وحده ليس كافيا، الشيخة حسينة حققت نجاحا كبيرا في مجال الاقتصاد والتنمية، ارتفع متوسط دخل الفرد في بلادها، أخرجت الملايين من دائرة الفقر، وضعت بلادها على الطريق نحو عالم النمور الآسيوية، لكن هذا ليس كل شيء، كانت هناك إخفاقات سياسية، مؤخرا قامت بحل حزب الجماعة الإسلامية، وهكذا التقى الخصوم جميعا ضدها، كان طلاب الجامعة هم عنصر الاشتعال في هذه المعركة.
التنمية من دون عدالة في توزيع عوائدها تخلق حالة من الغضب المصحوب بالحقد فيقع الانفجار، وهذا ما جرى هناك.
تجربة يونس في التنمية كانت على مستوى فئة معينة من السكان، المطلوب منه الآن تجربة على مستوى الشعب كله، احتياجات أفقر الفقراء تختلف عن مطالب وتطلعات أبناء الطبقة الوسطى، وما يرضى هؤلاء قد لا يتوافق مع أهواء الأثرياء وأصحاب المصالح الكبرى والنافذين، كيف سيتعامل مع هذه الفسيفساء؟
ارتفاع مستوى التعليم يصاحبه ازدياد الوعي بالحقوق السياسية ومن ثم اتساع مساحة الحريات العامة، قد تصبح سابقة على القيم والروح الوطنية ذاتها، وهو ما لم تفطن إليه الشيخة حسينة، بل سارت عكسه تماما.
هذه بعض التحديات أمام صاحب جائزة نوبل للسلام، هل ينجح ويكون على قدر الرهان عليه والمتوقع منه، ويقدم لنا تجربة أخرى جديدة، تضاف إلى تجربته السابقة أم يكون مثل أولئك الذين دفعت الاحتجاجات والغضب بهم إلى الصدارة فعجزوا عن مواجهة الأزمات، النماذج عديدة في منطقتنا وخارجها، ليخ فاليسا في بولندا، هافيل في بلاد التشيك و.. و.. و.. و.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك