حادثة رياضية غريبة وقعت أثناء الألعاب الأولمبية في باريس، وتتمثل في انسحاب الفريق البلجيكي في الخامس من أغسطس من سباق «الترايثيلون» الذي يتكون من ثلاث مسابقات هي ركوب الدراجة، والجري، ثم السباحة. وقد كان السبب في اعتراض بلجيكا وانسحابها هو عدم وجود الملعب المناسب الذي يتوافق مع المعايير والاشتراطات الأولمبية، وبالتحديد سباق السباحة الذي ينظم في نهر السين (Seine) العظيم الذي يمر في قلب العاصمة الفرنسية، باريس. وقد قامت اللجنة المنظمة لسباق الترايثيلون في الغاء، أو تأجيل الجزء المتعلق بالسباحة في النهر عدة مرات، إما لساعات، أو حتى أياماً نظراً لتلوث مياه النهر وعدم موافقة جودة المياه لمعايير الاتحاد العالمي للترايثيلون.
ولذلك عزى البلجيكيون انسحابهم وعدم مشاركتهم في الجزء الخاص بالسباحة لأسباب بيئية وصحية، وتتمثل في تلوث مياه نهر السين ببكتيريا القالون الذي يأتي من صرف مياه المجاري في النهر، إضافة إلى مرض المتسابقين الذين سبحوا في هذا النهر الملوث بالجراثيم المرضية في الجهاز العظمي.
فهذا الحدث الرياضي الذي قد يعتبره البعض لأول وهلة وبنظرة سطحية عابرة بأنه حدث بسيط ووقع في ميدان الرياضة، له مدلولات خطيرة كثيرة ومتنوعة على كافة المستويات القومية والإقليمية والدولية، ويؤشر إلى وجود قضايا حيوية مرتبطة بحياة الشعوب وسلامتهم، وله تأثيرات عميقة على إدارة الدولة لمواردها وثرواتها الطبيعية الحية وغير الحية، ومرافقها العامة وخدماتها التي تُقدمها للناس. أما المؤشر الأول فيبين العلاقة التبادلية والتكاملية بين الرياضة والبيئة، ويؤكد تأثير كل واحدٍ منهما على الآخر. فالرياضة واللاعب الرياضي لكي يمارس لعبته ويحقق الأرقام القياسية الجديدة والألقاب المتميزة والرفيعة في الألعاب الأولمبية وغيرها فإنه بحاجة إلى بيئة نقية ونظيفة، سواء أكانت جودة الهواء الجوي وخلوه من الملوثات السامة والمسرطنة التي تفسد أداء الرياضي في الألعاب الخارجية، وتؤثر على مستواه وتعيق تحقيق الإنجازات والأرقام الجديدة، أو كانت جودة المياه السطحية التي تُمارس فيها الرياضات المائية. ومن جانب آخر فإن المسابقات الرياضة الدولية والإقليمية الكبيرة كالألعاب الأولمبية وكأس العالم في كرة القدم وغيرهما إن لم تأخذ في الاعتبار الجانب البيئي وحماية البيئة والحفاظ على مواردها، فإنها ستترك بصماتٍ عميقة، وتغرس غرسة سيئة ومفسدة لجميع مكونات البيئة وصحة الإنسان، فتؤدي إلى تدهور صحتها من الناحيتين الكمية والنوعية. وأما المؤشر الثاني فيؤكد تدمير الإنسان للثروات الطبيعية والموارد البيئية، وعدم الاهتمام بها، وتجاهل صحتها وسلامتها للأجيال الحالية والمستقبلية، والمتمثلة في حالتنا هذه في نهر السين في باريس، أو المسطحات المائية بشكلٍ عام على المستوى الدولي، من أنهار، وبحيرات، وبحار ومحيطات.
فأزمة تلوث ومعاناة نهر السين قديمة ومستمرة منذ عام 1923، عندما مُنع الإنسان الفرنسي وحُرم من التمتع بهذا المورد العظيم والخير الوفير، وتم حظر السباحة فيه كلياً، واصطياد الأسماك، وشرب الماء، أي أن قضية تلوث النهر وهذه الثروة المائية العظيمة التي وهبها الله للإنسان أزلية وترافق حياة الأجيال لأكثر من مائة عامٍ وقرن من الزمان، علماً بأن باريس سمحت في 17 يوليو 2024 وعلى مضض، ولحفظ ماء وجهها للسباحة في النهر، وتحت ضغط عشرات الملايين من الناس الذين إما جاؤوا مباشرة إلى باريس، أو الذين شاهدوا الألعاب الأولمبية عن بعد من دولهم.
فتصورا أن دولة عريقة ومتقدمة ومتحضرة وغنية كفرنسا لم تنجح في إعادة الحياة للنهر من جديد وتخليص ماء النهر من الملوثات الحيوية والكيميائية التي تشبعت وتجذرت فيه بعمق منذ عقود طويلة في جسده العليل. وربما في تقديري تجاهلت باريس هذه القضية، وأهملتها طوال هذه السنوات الطويلة، ولم تلق لها بالاً حتى انفجرت الآن في وجه الحكومة الفرنسية وأثرت على سمعتها ومكانتها أمام كل دول العالم المشاركة في الأولمبياد، فظهرت قضية تلوث ماء النهر وانكشفت على السطح على المستوى الدولي في هذه الألعاب الأولمبية في العاصمة باريس، فرأى الجميع حول العالم سَوْءَة هذه البلدة المتقدمة، وحقيقة ما يجري فيها من اهمالٍ مزمن للبيئة ومكوناتها الطبيعية، وتأخر ملحوظ ورجعية شديدة في الأجندة البيئية.
ولكن هل إهمال البيئة وضعف رعايتها وصيانتها بشكلٍ مستدام، ممثلة في المسطحات المائية كالأنهار قضية معزولة وفردية تخص فرنسا فقط؟ أم أنها الآن ظاهرة دولية تعاني منها معظم المسطحات المائية في المدن الحضرية حول العالم؟
فلو ذهبنا إلى عاصمة الضباب لندن لوجدنا الحالة نفسها تتكرر من حيث تلوث مياه نهر التايمز (Thames) العريق الذي يعد شريان الحياة في هذه المدينة التاريخية المتقدمة. فهذا النهر تحول إلى مقبرة واسعة، ومكب عام للمخلفات السائلة والصلبة، وبخاصة مياه المجاري. فقد نُشر تقرير في 27 مارس 2024 عن وكالة البيئة البريطانية حول حجم صرف مياه الأمطار الفائضة مع مياه المجاري الخام وغير المعالجة إلى النهر لعام 2023، وأكد التقرير أن هناك زيادة في تسربات مياه المجاري في عام 2023 تصل إلى 54% مقارنة بعام 2022.
وتلوث مياه المسطحات المائية سواء أكانت الأنهار أو البحيرات أو المحيطات تسبب أزمات خانقة للدول التي تعتمد على هذه البيئات الحيوية كمصدر لمياه الشرب، أو لتحقيق الأمن الغذائي الفطري للشعب، أو من الناحية الصحية المتمثلة في انتقال الأمراض المعدية وغير المعدية من هذه المياه الملوثة إلى الإنسان والحياة الفطرية النباتية والحيوانية. ولذلك فمثل هذه الظاهرة تخالف المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وهي حقه في التمتع بالماء الصحي النظيف الخالي من الشوائب والملوثات والذي لا يسبب له أية أمراض حادة أو مزمنة، إضافة إلى حقه في توافر الغذاء السليم والآمن والكافي لإشباع الشعب، كما أن هذه الظاهرة لا تستقيم وتتعارض مع واجبات الدول في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وهناك عدة أسباب تقف وراء ظاهرة تلوث مياه الأنهار والمسطحات المائية الأخرى. الأول هو عدم فصل أنابيب ونظام صرف مياه الأمطار عن مياه المجاري، مما يشكل عبئاً كبيراً على محطات معالجة مياه المجاري وتزيد عن طاقتها الاستيعابية في المعالجة، وخاصة عندما تنزل الأمطار الشديدة ولساعات طويلة، مما يضطر المشغلون إلى صرف مياه الأمطار مع مياه المجاري الخام مباشرة إلى الأنهار. أما السبب الثاني فهو عدم مواكبة مشاريع التنمية والزيادة السكانية مع قدرة الخدمات العامة من مياه المجاري وغيرها على معالجة المياه المتزايدة التي تنتج عنهما، وبخاصة أن هذه المدن الغربية العريقة لم تقم بتحديث وتطوير وصيانة الأنابيب القديمة البالية والتالفة التي أكل عليها الدهر وشرب والخاصة بالمجاري والأمطار، إضافة إلى عدم رفع الطاقة الاستيعابية لهذه المرافق الخدمية.
ولذلك نجد أن حادثة بسيطة وقعت في ميدان رياضي، انكشف وظهرت لها دلالات واسعة النطاق، ليست فقط في المدينة التي وقعت فيها الحادثة وإنما في معظم مدن العالم، كما أن هذه الدلالات والمؤشرات تبينت ليس في الميدان الرياضي الضيق فحسب، وإنما في القطاعات الأخرى على حدٍ سواء.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك