لم يكن من الممكن الاعتراف بالخطباء العظماء في التاريخ على هذا النحو إذا كانت كلماتهم غير ذات معنى أو قيمة. إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليس خطيبا عظيما، كما أن الخطاب الذي ألقاه أمام جلسة مشتركة للكونجرس الأمريكي في الرابع والعشرين من شهر يوليو الماضي لم يكن ذا قيمة فعلية. لقد كان ذلك تعبيراً عن يأسه، إن لم يكن تعبيرا عن هزيمته، على جميع الجبهات.
في الحقيقة، إن هذا ليس بالأمر الجديد. فقد ظل نتنياهو على مدى سنوات عرضة للسخرية والاستهزاء على وسائل التواصل الاجتماعي. فخلال خطابه أمام الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في شهر سبتمبر 2012، عرض الزعيم الإسرائيلي مخططًا من شأنه إشعال فتيل حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط.
كما أن الخريطة الغريبة التي تمثل رؤيته لما يسميه «الشرق الأوسط الجديد»، التي عرضها أيضًا خلال خطاب آخر ألقاه على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر 2023، كانت أيضًا مثارًا للسخرية.
لكن في كلتا المناسبتين، وعلى غرار ما حدث في مناسبتين أخريين، لم تكن استراتيجية نتنياهو تهدف إلى المزاح على الإطلاق. فقد تم تنفيذ أفكاره على أرض الواقع، مع العلم بأن وسائل الإعلام العالمية لن تفوت فرصة تسليط الضوء على أدائه بكثير من الاهتمام، وفي أغلب الأحيان كانت الخطب التي يلقيها تمر من دون أن تجد من ينتقد مضمونها.
علاوة على ذلك، فحتى السابع من أكتوبر 2023، كانت عوامل الخطر المحتملة لنتنياهو، الناجمة عما قد يبدو لنا سلوكاً مشيناً وخطابات غريبة، ضئيلة للغاية. بل على العكس من ذلك، بالنسبة إلى دائرته الانتخابية في إسرائيل، كان الظهور على المسرح العالمي وسط هذه الضجة الإعلامية سبباً دائماً لحصوله على قدر أكبر من التأييد. وبالنسبة إلى أتباعه، فقد لعب نتنياهو دور «نبي العصر الحديث».
كتب ديفيد لازاروس في يوم 9 أكتوبر 2020: «لم يتبق سوى عدد قليل جدًا من القادة في إسرائيل أو في جميع أنحاء العالم لديهم القدرة على الفهم الكامل والتعبير عن الأهمية التاريخية لما يحدث في إسرائيل والشرق الأوسط وحول العالم اليوم»، ما يقرب من ثلاث سنوات بالضبط قبل عملية حماس في جنوب إسرائيل، والحرب الإسرائيلية الأكثر تدميراً التي تلت ذلك.
لكن صاحب الرؤية المفترض؛ أي نتنياهو فشل في قراءة كل العلامات، ليس فقط في الفترة التي سبقت الحرب، بل أيضاً في التأثير الكارثي للإبادة الجماعية، التي سوف تطارد بلاده سنوات عديدة قادمة. ومنذ ذلك الحين، تخلت غالبية الإسرائيليين عن «نبيهم»، كما تظهر العديد من استطلاعات الرأي الإسرائيلية.
ومع ذلك، يبدو نتنياهو غير منزعج بالمرة من هذه الاتجاهات التي تشق الرأي العام. لقد تحدث في الكونجرس الأمريكي وأبان عن غياب شبه كامل للوعي بالواقع الجديد المنبثق عن سياساته الفاشلة وقراءته المشوهة للتاريخ.
بالنسبة إلى أولئك الذين قد لا يعرفون، فإن نتنياهو يسوق نفسه أيضًا للإسرائيليين باعتباره مثقفًا. ويشتمل فكره على معاداة مسألة مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الشرق الأوسط، أو ما يسمى «نظرية المركزية الفلسطينية».
ولمواجهة ما يسميه «هذه الكذبة الكبرى»، كرّس نتنياهو مفهوم «السبب المضاد»، كما هو الحال في تحدي فكرة أن إسرائيل؛ أي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وغيرها من الأراضي العربية، هي السبب الرئيسي للمشاكل في الشرق الأوسط.
وحتى وقت قريب، اكتسبت نظريات الرجل قدرًا كبيرًا من الاهتمام، وهو ما يكفي في الواقع لتهميش القضية الفلسطينية مؤقتًا، والاستثمار في طرق جديدة لتشكيل «الشرق الأوسط الجديد»، حيث فلسطين ببساطة ليست على الخريطة.
لكن هذه الأوهام تداعت ومازالت تنهار حتى اليوم. وبدلاً من الضغط على زر إعادة الضبط الذي من شأنه أن يشكل الشرق الأوسط وفقاً للأولويات والمصالح الإسرائيلية، فقد ضغط الفلسطينيون عليه.
هذه المرة ليس لدى نتنياهو نظريات، ولا حلول فعلية، ولا رؤى نبوية، ولا حتى خريطة سخيفة لإنقاذ حياته أو مسيرته. فبعد تفاقم عزلته عن قسم كبير من العالم، هرع نتنياهو إلى المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالأمان، حيث يصفق له الناس من دون قيد أو شرط، حتى قبل أن يتحدث. إنه الكونجرس الأمريكي.
وبالفعل، فقد فعلوا ذلك 39 مرة، بما في ذلك 23 تصفيقاً حاراً، بإجمالي 10 دقائق و55 ثانية على وجه الدقة، ولكن حتى المجموعة المرحة من ممثلي الولايات المتحدة الذين وافقوا على أن يكونوا جزءا من تلك التمثيلية المأساوية لن تنقذ نتنياهو.
وهنا لا بد من وقفة سريعة، تقديراً لمن رفضوا حضور خطاب نتنياهو وسماع الأكاذيب، وإعجابا بعضوة الكونغرس الأمريكي الفلسطيني الأصل رشيدة طليب، التي رفعت لافتة طوال الحفل تذكرنا، والعالم، بأن نتنياهو هو «مجرم حرب» و«مذنب بارتكاب إبادة جماعية».
إن نتنياهو ليس كاذباً مرضياً، كما يتهمه في كثير من الأحيان أعداؤه ومنتقدوه، في إسرائيل وأماكن أخرى. إنه يكذب، لأنه في بعض الأحيان يكون عدم قول الحقيقة أمرًا مريحًا، وخاصة عندما لا يكون هناك محاسبة على الكذب، مرارًا وتكرارًا.
لكن في خطابه أمام الكونجرس، فعل نتنياهو أكثر من مجرد الكذب. فقد كانت لديه الجرأة على وصف الملايين من الأمريكيين الذين احتجوا على الحرب بأنهم «أغبياء إيران المفيدون»، في حين راح يردد اللغة اليمينية حول «الصدام بين الهمجية والحضارة».
ومع ذلك، فقد أعجب عدد قليل منهم حقًا. وحتى أقرب حلفائه يتخلون عنه. فقد وصفت رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي خطابه بأنه «أسوأ عرض تقديمي لأي شخصية أجنبية رفيعة المستوى تتم دعوتها وتكريمها بشرف مخاطبة الكونجرس الأمريكي»، فيما اعتبره كثيرون آخرون غير صادق، بمن في ذلك شعبه الإسرائيلي.
وعندما كان نتنياهو مهما، فإن خطاباته غالبا ما تسببت في إشعال فتيل الحروب، أو زعزعة الاستقرار الإقليمي، لكن نتنياهو لم يعد ذا أهمية، باستثناء قِلة من الساسة الأمريكيين الذين يتنافسون على إعادة انتخابه.
وكان الزعيم الإسرائيلي يأمل في الضغط على زر إعادة الضبط والعودة إلى نظرياته السخيفة حول عدم أهمية فلسطين بالنسبة للشرق الأوسط والعالم. وقد ثبت خطأه مرة أخرى، مما جعله «نبيًا كاذبًا»، أو في أفضل الأحوال، قائدًا فاشلاً.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك