على الرغم من تربع الإنسان على قمة هرم الكائنات الحية منذ الأزل، فإنه لم تبلغ حقوقه منتهاها إلا حينما نزل القرآن الكريم في غار حراء على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحتى نكون أكثر صراحة ووضوحًا فإننا نتحدث عن الفكر والعقيدة الإسلامية، ولا نتحدث عن الفترات الظلامية التي مرت على الحضارة الإسلامية، حينما حكمها بعض الأمراء الذين صادروا الفكر وضيقوا الخناق على حرية التعبير، وضيقوا الخناق على الإنسان وتحكموا في جميع احتياجاته، كل ذلك من أجل مصالحهم الشخصية.
يتعامل الفكر الإسلامي مع الإنسان على أنه قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، فهو ليس قبضة طين خالصة بمعنى أنه مجرد أمر مادي وشهوات ورغبات يجب أن تتحقق، وليس روحًا خالصة تسعى إلى السمو والتنزيه عن الرغبات والشهوات، وإنما هو الأمران معًا، يشكلان وحدة مترابطة في كيان واحد، وفي وحدة مترابطة تختلف في خصائصها اختلافًا جذريًا، عن قبضة الطين الخالصة، ونفخة الروح الخالصة، وإن كانت تحمل بين الحين والحين المتشابهات من هذه وتلك؛ حينما تجنح جنوحًا شديدًا نحو عالم الجسد أو عالم الروح، لكنها حتى في تلك الحالة لا تكون متماثل أبدًا لأي من العنصرين منفصلين.
ولكن هذا الإنسان المخلوق من هاتين المادتين كرمه الله سبحانه وتعالى وجعله يتبوأ قمة هرم الكائنات الحية، إذ جعله خليفة في الأرض، يطورها وينميها ويستعمرها في أفضل صورة كانت، ثم قال الله تعالى في سورة الإسراء – الآية 70 (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، فالإنسان في الإسلام ليس مهمته الأكل والشرب والتناسل فقط مثل بقية الكائنات الحية، ولا مهمته الإنتاج المادي فحسب، بل هو خليفة في الأرض إعمارًا لها، ونشرًا للعدل، وسموًا بالروح، مهمته العبادة بمعناها الشامل من عقيدة صحيحة وأداء للشعائر، ونشاط في كل مجال حيوي ليستقيم الكون.
في دراسة بعنوان (الروابط الإنسانية في الإسلام) للباحث محمد حافظ سليمان نشرت في مايو 2020 في مجلة منبر الإسلام، يقول «إنّ الإنسانية إحدى خصائص الإسلام، وإنها تشغل حيزًا مهمًا في منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية. وقد حرص الإسلام في تكريمه للإنسان، فجعل له حقوقه الكاملة غير المنقوصة في الحرية والكرامة والحياة الكريمة، فلا يحتقر أحد أو يعتدي عليه أحد، وإنّ عليه واجبات يؤدّيها تجاه المجتمع وأفراده في جوّ من الألفة والمحبة. لأن الله خلق الناس من نفس واحدة، وقد أكد المساواة بين جميع أفراد المجتمع. وقد أذهب الله بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بالأنساب وبهذا حفظ الإسلام للفرد كرامته الإنسانية لينمي مواهبه وموارده ويعمل الخير لنفسه وللناس متعاونًا مع غيره على البر والتقوى».
فالإسلام في فكره وعقيدته حافظ على حقوق الوالدين والأقارب، وحقوق الجيران، وحقوق الطفل، حقوق الأقليات، ودعا إلى التكافل الاجتماعي والاقتصادي، والمحافظة على السلوك الأخلاقي حتى حينما تقع الحروب والكوارث الطبيعية وما إلى ذلك، ولقد اشتهر أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه كان يوصي الجيوش بهذه الوصية: «يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فأحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاعون»، وهذا هو دستور الإسلام في الحروب وكل هذا من أجل المحافظة على كرامة الإنسان والإنسانية.
وبمعنى آخر فإن الإنسانية احتلت في الإسلام أعظم مكانه، وأعلى منزله، فقد نوه القرآن الكريم بشأنه وأشار إلى رفعت منزلته وعلو قدره، لذلك يجب المحافظة على إنسانيته، والارتقاء بآدميته، وصون كرامته، وتعظيم حرماته، ولم تلك مجرد نظريات مذكورة كآيات في القرآن الكريم وإنما كانت منهاج حياة عاشت وتواجدت على أرض الواقع لعشرات القرون، واسألوا التاريخ.
ومن ناحية أخرى ففي الحضارة الغريبة المعاصرة فقد كانت أول إشارة مسجلة لحقوق الإنسان إبان الثورة الفرنسية التي بدأت أحداثها 1789 ميلادية، ثم تم تدوينها في ميثاق عصبة الأمم سنة 1920، ثم ميثاق الأمم المتحدة 1945، ثم أفردت دوليا بوثيقة خاصة هي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) الذي أقرته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948.
ولكن هل تم تحقيق هذه المعاني على أرض الواقع؟ تعالوا لنقرأ بعض ما نشر حول ذلك.
بعد أن نشرت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية إحصائيات جديدة تنبئ عن زيادة عدد الوفيات بسبب الانتحار في الولايات المتحدة زيادة مريعة منذ 1999م، يشير الدكتور كلاري روتلبرج عالم النفس والسلوك إلى أزمة الإنسان الحديث وهي أزمة انعدام المعنى، حيث يربط بين الشعور بحالة انعدام المعنى في حياة الإنسان وبين شرب الخمر وإدمان المخدرات والاكتئاب والقلق وأخيرًا الانتحار.
يقول كلاري: عندما يتعرض الناس لفقد المعنى والضغوط والصدمات حينها يكون للذين يعتقدون أن لحياتهم غاية قابلية أكثر للمواجهة وللتغلب على المحن والتعافي منها. لذلك أصبحت حاجة الإنسان الغربي إلى الانتحار أمرًا متفهما، فنشأت في عدد من البلاد الأوروبية منظمات ومراكز تقدم خدمة المساعدة على إنهاء الحياة لتخفيف المعاناة والألم، وهو ما يعرف بالقتل الرحيم، وينظر إلى هذه العملية على أنها أحد تطبيقات الحرية الشخصية، فكل إنسان له الحرية المطلقة لوضع النهاية لحياته، وله الحق في الموت بكرامة كما يزعمون.
وربما السبب الرئيس في ذلك أن الحضارة الغريبة المعاصرة اختصرت الإنسان في الجانب المادي، وتعاملت معه على اعتبار أنه مادة ومادية، فلا روابط إنسانية تربط بين البشر، ولا علاقات إنسانية بين الجيران، أو الأب والأم والأولاد، وحتى العلاقات الزوجية هي في الأصل علاقات جنسية مادية بحته، فلا آلفه ولا مودة ولا رحمة، لذلك جاءت فكرة الشواذ، والفكر الاقتصادي الرأسمالي، ونمى الاحتكار، والغش، والربا، والسرقات، فعاش والمطلوب من الإنسان أن يعيش لنفسه فقط ولا يهتم بأمر بأحد.
ويمكن أن نلاحظ أن الحضارة الغريبة انفردت عبر تاريخها الطويل بمنهجية (الإقصاء)، والتي تعني ألا نرى الآخر من منظور تشاركي بقدر ما نراه منافسًا لدودًا وعدوًا محتملاً. والتاريخ شاهد على ذلك، فبعدما وصل الأوروبيين لأستراليا مثلاً لم يبق فيها سوى آثار من الشعوب الأصلية حتى باتوا يدرسونهم على أنّهم فلكلور وانثروبولوجيا. وكذلك فعل الأمريكان مع الهنود الحمر، فالتاريخ يشهد أن الحضارة الغربية حضارة دموية عنصرية.
يتتبع الفيلسوف الفرنسي موران هذه الظاهرة بدءًا من أصولها القديمة في اليونان وروما، بل يستكشف جذور هذه النظرة للعالم في الفلسفة الغربية وتحولات الدين والثقافة التي رافقت هذا المنظور، ويقترح أن هناك حاجة إلى نهج أكثر شمولية وترابطًا لفهم الإنسانية والعالم الطبيعي لمعالجة هذه القضايا.
وحتى لا يكون كلامنا عبثًا، يمكنكم ببساطة أن تأخذوا كاميرا فيديو معكم وتسيروا في شوارع أمريكا ودول الغرب، ثم قوموا بتصوير المشردين الذين لا يملكون البيوت، الجوعى الذين لا يملكون الطعام، المتعاطين للمخدرات والمسكرات، وأصحاب البشرة السمراء وماذا يفعل بهم في الحياة وفي المؤسسات، وحتى المرأة لا تجد كرامتها في الحياة هناك.
فهل نستغرب اليوم مما يحدث في غزة؟ فهذه حضارتهم وهذا فكرهم، وما نحن بالنسبة إليهم -مهما فعلنا- إلا مجرد حيوانات تسير نحو المسلخ.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك