في كثير من الأحيان يذكّر الحديث الرسمي للجانبين الأمريكي والأوروبي عن الصين بما يسمى في علم النفس بعلاقة الحب-الكره. من جهة، يبتهج الغرب عندما تُعلن البيانات الدورية عن الاقتصاد الصيني وتثبت استمرار نمو مصنع العالم وكفاءة الشركات العملاقة التي تصدر منتجاتها إلى كل بقاع الأرض، وتثبت أيضًا تواصل ارتفاع القوة الشرائية للمواطنين والمواطنات، البالغ عددهم مليارا ونصف المليار تقريبًا. يبتهج الغرب لأن نمو اقتصاد العملاق الآسيوي يبعد شبح الانكماش ذي المخاطر المتعددة عن الأمريكيين والأوروبيين، ولأنه يفتح المزيد من أبواب الاستثمار أمام شركاتهم التي تتواجد بكثافة في الصين. سياسيًا، يبتهج الغرب أيضًا حين تأتى من قيادة الحزب الشيوعي ومؤسسات الدولة الصينية سياسات وإجراءات تتوافق مع مصالح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كحماية حرية الملاحة والتجارة في منطقة البحر الأحمر وضمان عدم اتساع رقعة الصراعات العالمية على نحو يؤثر على استقرار إمدادات الطاقة وخطوط التجارة والمواصلات.
غير أن حديث المسؤولين الغربيين يدلل أيضًا على خليط من الغيرة والخوف من التقدم المطرد للصين اقتصاديا وسياسيا وتداعياته على النظام العالمي. تكاد الغيرة تقتل الجانبين الأمريكي والأوروبي حين تأتي البيانات الاقتصادية للعملاق الآسيوي متفوقة في معدلات نموها وضبطها للتضخم وتطور صادراتها على الغربيين، وخاصة حين تواجه بعض الاقتصادات الغربية الكبرى أوضاعًا انكماشية كما هو الحال فيما خص اليابان وألمانيا. ويكاد الخوف من كفاءة الشركات الصينية العاملة في مجالات التكنولوجيا والطاقة والنقل والبنية الأساسية يقتلهم ويدفعهم، في تناقض صريح مع كتاب حرية التجارة والمنافسة المقدس، إما إلى فرض رسوم جمركية انتقامية على بعض تلك الشركات وإما إلى إنزال عقوبات صريحة بها فيما يشبه الحرب التجارية العالمية.
يقتل خليط الغيرة والخوف الغرب حين يسجلون حقيقة أن التطور التكنولوجي للعملاق الآسيوي لم يعد يعتمد على نقل التكنولوجيا من قبل الشركات الأمريكية والأوروبية، وصار قبل أي شيء آخر يستند إلى طاقات علمية وبحثية وتكنولوجية داخلية تطورت على مدى العقود الماضية، وأصبحت قادرة على تجاوز القيود والرسوم والعقوبات الغربية.
أمس، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تحقيقا متميزا عن السياسات والإجراءات التي نفذتها الحكومة الصينية على مدار عقود متعاقبة لتطوير قاعدة علمية وتكنولوجية محلية (هنا). وعلى الرغم من المعلومات الدقيقة التي يحملها التحقيق والصورة التحليلية التي يرسمها لبلد عملاق يدرك استراتيجيًا ما يحتاج إليه لمواصلة التطور والنمو ويبتدع سياسات وإجراءات محددة للوصول إلى أهدافه وبرؤية واضحة لعنصر الزمن وقراءة واقعية لحدود دعم الغرب، إلا أن التحقيق يحمل بين طياته خليط الحب-الكره المعتاد.
ينطبق الأمر ذاته على نظرة الجانبين الأمريكي والأوروبي للأدوار السياسية التي تضطلع بها الصين في محيطها الآسيوي وعالميًا، حيث يشعر الغرب بالغيرة والخوف القاتلين حين تتوسط بكين بين السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما ولإنجاز توافق بين البلدين بشأن اليمن وبعض ضمانات الأمن الإقليمي في شبه الجزيرة العربية والخليج، أو حين يخرج من العاصمة الصينية إعلان مصالحة وتوافق وطني بين كل الفصائل الفلسطينية.
في تلك اللحظات، يسيطر خليط الحب-الكره على نظرة الغربيين للصين ويراوحون، فيما خص السعودية وإيران، بين التقييم الإيجابي المتحفظ وبين، وفيما خص فلسطين، التندر والتسفيه. والشاهد أن الصين في السياقين قامت بممارسة دبلوماسية الحل السلمي للصراعات بنشاط ملحوظ وبهدف دعم الاستقرار والأمن العالميين، ولم تخشَ التورط الإيجابي مع إيران التي يراها الغرب دولة مارقة أو مع الفصائل الفلسطينية، التي يصنف الغرب الكثير منها كحركات إرهابية.
الحال، إذا، هو أن الغرب يقارب الصين بخليط الحب-الكره هذا ويبحث عن استراتيجيات وسياسات لاحتواء صعود العملاق الآسيوي. ويدلل على ذلك، وخاصة في لحظات الأزمات الإقليمية والعالمية، مجمل تصريحات المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين ومضامين العديد من التحقيقات الصحفية والأوراق البحثية المتداولة في مراكز التفكير الغربية. ثم ينقلب خليط الحب-الكره الغربي إلى عداء صريح ما أن يشعر الأمريكيون والأوروبيون بتفوق الصين إن في محيطها الإقليمي؛ أي في منطقة المحيط الهادي وقضايا الأمن العالمي المرتبطة بها ووضع تايوان، أو في السياسة العالمية، كما هو الحال في التورط الإيجابي للتوصل إلى حلول سلمية لبعض الصراعات وفي العلاقات المتنامية مع روسيا ومع العدد الأكبر من بلدان الجنوب العالمي وفي التجمعات العالمية التي صارت بكين تقودها وتضم إليها قوى إقليمية من الجنوب، مثل تجمع البريكس الذي اتسعت عضويته مؤخرًا.
أما الصين فتتحرك منذ خمسينيات القرن العشرين، وفقًا لاستراتيجية طويلة المدى لفرض نفسها قوة اقتصادية وسياسية عالمية مرتكزها الأول هو ضرورة تواكب اتساع مساحات الدور العالمي مع التطور المطرد في القاعدة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية الوطنية ومع استقلاليتها المتصاعدة من قيود التبعية للغرب ودون التورط في مغامرات أو مقامرات في المحيط الإقليمي أو العالمي. ولن تخرج الصين أبدًا، لا في المحيط الهادي ولا في الشرق الأوسط والجنوب العالمي ولا في إدارتها لعلاقاتها مع الغرب وروسيا، عن محددات تلك الاستراتيجية طويلة المدى.
فعنصر الزمن هو في صالح العملاق الآسيوي، والحقائق العالمية للاقتصاد والسياسة في صالحه أيضًا. والصعود التدريجي وعلى نار تقدم هادئة أفضل بكثير لبلد ذي حضارة عمرها آلاف السنين عن الاختراقات السريعة قصيرة العمر ومحدودة المفعول.
{ أستاذ علوم سياسية وباحث
في جامعة ستانفورد الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك